التكيّف مع الحرب... حروب أُخرى
تردنا الصور القاسية مزيّنةً بنكهة ادّعاء القوّة، صور تستبدل مفردات بأخرى، مثل استبدال الرحيل بعبارة "باقون هنا رغم أنف الحرب"، رغم أنّ الرحيل أمر حاصل ومثبت، لكن قطّة ما بقيت هنا، بقايا جذع شجرة لم يُقتلع بكامله، أو مجرّد عبارة مكتوبة على الجدران، تفاصيل غارقة في مستنقع الحرب الشرسة والمدمرة، وكلّه في محاولةٍ لكسائها زيّ النجاة أو الصلابة والتكيّف في أفضل الأحوال.
تردنا صورة لبطانية توزّع كإعانةٍ طارئة للمتضرّرين من الحرب وقد تحولت إلى رداء للنوم أو روب داخلي للحصول على الدفء، سجادة تحوّلت إلى سقف وحجر صار وسادة، أو قدر كبير صار مطبخًا لعدّة عائلات.
تكتب سيدة ما يشبه المُعلّقة في مديح بدونات وعبوات المياه البلاستيكية وكيفية تحويلها إلى حافظاتٍ للأغراض أو خزنات طارئة للملابس. ففي الصور القاسية الواردة من بلاد الحرب، نرى محاولات شتى للتكيّف مع الحرب، في مواجهة انعدام كافة الوسائل الأساسية لمتابعة الحياة اليومية المغمورة بالموت والتهجير والهدم ومحو جغرافيا بكاملها عن الخريطة وتحويلها إلى مجرّد أرض خلاء ومسكن عامر بالحرب والموت الخواء.
الحرب المزروعة في ذاكرة السوريين لم تختفِ وإن كمنت في زاويةٍ بعيدة من الذاكرة لكنها لا تنام بعمق، تستفيق بسرعة ورهبة ولو على صوت ارتطام سيارة بأخرى، أو مجرّد لمعة ضوء حاد لجرم سماوي يوقظ ذاكرة القذائف وألوان الخطوط الملتهبة في السماء التي تجعل السوريون خبراء في كلّ خطٍّ ناري يعبر السماء، هذا صاروخ وذاك قذيفة، حتى الرصاصات مختلفة الأحجام والصدى، لدرجة أنّ إحدى صديقاتي وعندما لامست رصاصة القناص قبّة معطفها قالت إنّ نوع الرصاصة مختلف بدليل أنّ رائحة شواء قبّة المعطف كانت مختلفة عن رائحة الرصاصة العادية التي اخترقت سترة ابنها المنشورة على حبل الغسيل.
التكيّف مع الحروب وأهوالها، هي حروب اُخرى تدور بقهر وإن لبست ثوب البقاء
يتغنى الألمان بأنّ نساء الردم، نساء ألمانيا، قد أحيين بلدهن، هذا صحيح، والبلدان لا تموت، تنهض من جديد وربّما بشكل أكثر متانة وأكثر تلبية لحاجات أهله وناسه، لكن نساء الردم أحيين بلدا بأكمله وبقيت الحكايات ردمًا غير قابل للطمر أو للنسيان، والأهم أنّه إرث غير قابل للتلاعب مهما تعرّض للإنكار ومهما شاب الأمر من قصص مزيّفة وبطولات مختلقة وأوهام واسعة ومتعدّدة.
وشِعر الحرب كشعر الحبّ لا تذروه الرياح وإن خفت صوت المعارك، الحبّ كما الحرب يستلهم قصائد مطلوب منها أن تبقى بقوّة، وكذلك صور كلّ محاولات الاحتيال على الخراب من أجل البقاء، باقية كما الحكايات المتقدة في الذاكرة، لكنها حروب اُخرى تدور رحاها في الذاكرة وفي الأشعار وفي الحكايات والاستعارات المالحة على شفاه تخاف ذكر عبارة الحرب فتعرض روبًا مفصّلًا من غطاء موزّع للإغاثة صمّمه أهل الخيام من بطانية أمميّة وزعوها كي تردّ موتًا بحرب أُخرى هي البرد والنوم في العراء. لكن وهنا تحديدا تنهض الحرب من غفوتها المؤقتة وبضراوة بالغة لتقول بإنّها مازالت هنا! على عروات القمصان وعلى بدلات الجنود العسكرية، وشوم على السيقان والجبهات وحفر عميقة صنعتها الرصاصات الموجّهة بدقة واهتمام بالغين لتثبّت صوت الحرب ورائحتها عميقًا في الوجدان.
لم تقص صديقة لي ياقة معطفها المحترقة برصاص القناص، غطّت الياقة بفروة اصطناعية، وكلّما ارتدت معطفها بانت من تحت الفروة فتحة مكوية بنار الحرب. لن يرمي أهل غزّة بطانيات الإغاثة حتى لو انتهت الحرب، ستصير غطاءً لبسطة خضار، وربّما بساطًا لرحلة عائلية نحو برِّ غزّة أو بحرها، كما لن يتعامل أهل بيروت وجنوبها مع بدونات وعبوات الماء البلاستيكية كمادة مضرّة بالبيئة الملوّثة أصلًا بالحرب، حتى وإن هدأت القذائف وألجمت الصواريخ، ستصير عبوات للمونة، للزيتون، للصابون وربّما عبوات للماء العذب من ينابيع تعلن قدوم الربيع.
التكيّف مع الحروب وأهوالها، هي حروب اُخرى تدور بقهر وإن لبست ثوب البقاء.