الثورة المقبلة أخلاقية
بكيت والله. هذه المرّة لم تكن دموع الحزن، ولا حتى دموع الفرح. بل كانت دموع التأثّر بسماع صوت من أعلى منصة للعدالة في عالمنا المعاصر، يصف بصوت واثق، مرتفع، مؤنِّب، شجاع، ما يحدث في غزّة والضفة بالتعابير الصحيحة، والمفردات الممنوع عادة التلفظ بها في حق إسرائيل.
كانت مرافعة جنوب أفريقيا باللغة الإنكليزية. لغة باتت، إضافة إلى اللغة الفرنسية التي يتضاءل الناطقون بها يوماً بعد يوم، تُحيل بشكلٍ لا واع لدى المستمع من الشعوب المغلوبة على أمرها، إلى توقّع الخبث وتبلّد الإحساس بدل العدالة والاحترام. لغة أكاد أقول إنها "منكوبة" ببعض الناطقين بها من مستبدي العالم، ممن حولوها في وعينا كأهل الجنوب العالمي، إلى مجرّد لغة "عدوة" اعتاد الناطقون بها تسخيف قضايانا، تزييفها وتشتيت الانتباه عنها.
طوال الجلسات، جلست أمام الشاشة مُنصتة، لكن متوجّسة، من ثغرة هنا أو هناك في خطاب المترافعين عن فلسطين، تراعي العدو أو تخفّف من ارتكاباته كما اعتدنا بهذا القدر أو ذاك. لكن لا، لم يكن هناك أيّ شيء من هذا القبيل: مرافعات قوية باتكائها على الوثائق، صلبة في بلورتها للوقائع إلى حدّ بثّها للأمل، ولو كان ضئيلاً، في الحصول على العدل. تصوّروا؟
وهي تتكلم، شعرت كما لو أنّي اتكأت على كتف تلك السيدة السمراء التي كانت تتكلم بثقة، غير مبالية بمقاطعة ممثل الكيان الإسرائيلي، لا بل موبخة له لتلفظه بالأكاذيب، في حين كانت تقدّم ما هو موثّق بالصوت والصورة من جرائمه. انتابني إحساس بالانتماء إلى هذه السيدة، كما لو كانت أمّاً خارقة، تدافع عن أطفال الحي أمام زعران الحارة المتنمرين.
تسيّد نوع من التبلّد الأخلاقي في مشهد السياسة الدولية، تخاله لسِعة انتشاره قد أصبح هو "الطبيعي" بحكم ممارسات موازين القوى وانعدام المحاسبة واستسلام الناس
كان المشهد، للأسف، استثنائياً. فقد اعتدنا سماع أولويةِ مصالح الدول على أيّ اعتبارات أخرى، بالمعنى الذي تصبح معه المطالبة بالعدل وتوقّعه نوعاً من سذاجة سياسية.
فقد ساد اعتقاد، أسمعه منذ سنوات بشكلِ متزايد، مفاده أنّ السياسة لا علاقة لها بالأخلاق. هي، حسبهم، تارة فن اقتناص الفرص بغضِّ النظر عن أيّ اعتبارات بالمعنى الإنساني والأخلاقي والحقوقي، وتارة هي مصلحة النفس بدون أيّ اعتبار للضرر اللاحق بجارٍ، أو حليفٍ، أو أي مجموعة إنسانية.
وفي الحقيقة، أدى تعميم هذه النظرية لتسيّد نوع من التبلد الأخلاقي في مشهد السياسة الدولية، تخاله لسِعة انتشاره قد أصبح هو "الطبيعي" بحكم ممارسات موازين القوى وانعدام المحاسبة واستسلام الناس.
ومع الاعتراف بأنّ المصالح لا بد منها، لكن من الممكن وبجهدٍ إضافي، أن تكون تلك المصالح مشتركة بنسبة مقبولة. فتخفّف الظلم والفروقات الهائلة القائمة اليوم بين الناس، وتتفادى العنف، النهاية الطبيعية لأيّ انسداد أفق أمام البشر في الحصول ولو على الحدّ الأدنى من حقوقهم.
إلا أنّ الاختيار المتكرّر للجشع من قبل الأقوياء، بحكم القدرة على الهروب من المحاسبة، أدى إلى عالم "صفر أخلاق". هذا هو الوصف الصحيح لعالمنا اليوم: المتقدّم، المتحضّر، المُتكل عليه في حماية حقوق البشر، أو المدّعي لذلك.
صفر أخلاق. ولو أنّ هناك لا شك "جيوب" مقاومة هنا أو هناك، تشرّف الجنس البشري بتصدّيها رغم كلّ شيء للظلم البيّن.
القانون من دون قوة تفرض تطبيقه هو مجرّد كلام، ولو كرّرته مليون مرّة
لطالما اعتقدت أنّ الثورة الإنسانية القادمة عليها أن تكون بالضرورة ثورة أخلاق. بمعنى ثورة لاستعادة القيم التي أوجدتها وتلاقت حولها المجتمعات البشرية، لكن معظمها اختفى تدريجاً بموازاة اعتزال الناس كلٍّ في فقاعته إلى هذا الحد أو ذاك. استُعيض عن تلك القيم في المجتمعات المتقدمة بالقوانين، وإيجاد المؤسسات التي تقوم بمقام ومهام التضامن الإنساني بين البشر. لكن مشكلة تلك المؤسسات أنّها ما أن تُصاب بالضعف والتفكّك، حتى يعود التوحّش. لغياب القدرة على فرض القانون، واندثار القيم في آن.
أشير مثلاً إلى قانون وُضِع في أواخر الثمانينيات في فرنسا إثر حوادث تكرّرت في تلك البلاد وملخصها انعدام تعاطف الناس مع أشخاص في حالة الخطر. أي أن يكون أمامك شخص ملقى على الطريق، جريحاً أو مصاباً بنوبة قلبية، أي في حالة حرجة تهدّد حياته، لكنك تمرّ من جانبه، تتجاهله ولا تساعده، أو الأسوأ أن تقف وتصوّره بهاتفك كما حصل في حوادث عدّة!
لذا قام المشرع الفرنسي بسن قانون يعاقب من يمتنع عن مساعدة أشخاص في حالة الخطر. هنا، حلّ القانون مكان الأخلاق المفتقدة، وأجبر المواطن على تصرّف إنساني عبر التهديد بالعقاب.
لكن ما الذي سيحصل إن وصلت الحال بفرنسا إلى انهيار المؤسسات؟ هل يستعيد البشر بصورة آلية قيمهم الاجتماعية القديمة؟ هل يمدّ الناس اليد لمساعدة بعضهم بعضاً بغضّ النظر عن أيّ تهديد بالعقاب القانوني؟ ما هي اللحمة التي ستربط أفراد المجتمع بعضهم ببعض؟
العنف المسلح هو النتيجة الطبيعية لافتقاد أي طريق إلى الأمل بالعدالة
لا أعرف. على الأرجح ستكون، كما في بلادنا، هناك عودة للدين والتديّن استجابة للغريزة الإنسانية في حماية الذات من التوحّش. لكن ماذا عن المجتمعات التي قطعت علاقتها بالدين إلى هذه الدرجة أو تلك؟ هذا في حال المجتمعات.
وماذا عن علاقة الدول بعضها ببعض؟
مبدئياً، لا يختلف الوضع. فالقانون الدولي وضِع هو الآخر لحماية من لا يستطيعون حماية أنفسهم وحقوقهم.
لكن المتحكّم بتطبيق هذا القانون الدولي اليوم هو للأسف ميزان القوى. فالقانون من دون قوة تفرض تطبيقه هو مجرّد كلام، ولو كرّرته مليون مرّة. لا بل إنّ تكراره سيفقده المعنى رويداً رويداً. فإن فشلت المؤسسات الدولية بحماية الدول المعتدى عليها أو على حقوقها، هناك احتمال من اثنين: إمّا الفناء الذي لا تتقبله غريزة البقاء، إن كان عند الأفراد أو الدول، أو اللجوء إلى المقاومة التي ستتصاعد كلّما طال الظلم، لتصبح عنيفة مسلحة، كما يحصل اليوم في فلسطين، وكما يجدر بها أن تفعل.
فالعنف المسلح هو النتيجة الطبيعية لافتقاد أي طريق إلى الأمل بالعدالة. إنّه عنف الدفاع عن النفس. لا بل إنّ عدم ظهوره يشير إلى مشكلة أخطر، تماماً كما عندما تتأخر الظواهر الطبيعية عن مواسمها.