الحوار الأخير لمحمد فوزي
قبل حوالي أربعة أشهر من رحيل المطرب والملحن الرائع محمد فوزي ذهب مندوب صحيفة (الأهرام) الكاتب كمال الملاخ ليزوره في غرفته الصغيرة في الدور التاسع بالمستشفى التذكاري في نيويورك، والتي كان يتلقى العلاج فيها بعد رحلة مع المرض كانت قد استمرت عامين حتى ذلك الوقت، فوجد في صحبته زوجته كريمة التي اشتهرت صحفياً بلقب (فاتنة المعادي)، والقنصل المصري العام في نيويورك سعيد السيد. كان واضحاً مما كتبه كمال الملاخ في مقدمة حواره مع محمد فوزي أنه وجده في حالة صحية حرجة، فقد وصف لأكثر من مرة وَهَن جسده وخفوت صوته، ويبدو أنه كان يريد أن يخبر القراء عن تردي حالة محمد فوزي الصحية، لكنه قرر ألا يفعل ذلك بشكل مباشر، فكتب قائلاً: "مطربنا الفنان يرنو بناظريه إلى نافذة حجرته، يحاول أن يجد ولو بصيصا من شعاع من نور من ضوء، ولكن المطر يتراكم على زجاج النافذة ليسيل، إنه يجعل الرؤية ضبابية شبه مستحيلة".
بتاريخ 20 أكتوبر 1966، نشر الملاخ حواره بعنوان "بلاغي" سقيم هو (محمد فوزي على سرير العذاب تحت غيوم نيويورك)، وقبل أن يعطي محمد فوزي الفرصة للملاخ لكي يوجه أسئلته بادره قائلاً: "قبل أن نتكلم أريدك والله أن تشكر الرئيس والمسئولين، تشكر الدولة، تشكر اخواننا اللي أشعروني في غربتي إني في بلدي، وبعدين نتكلم"، لكنه لم يعط كمال الملاخ فرصة لسؤاله عن حالته الصحية بل أخذ زمام الكلام من جديد وقال بانفعال: "على فكرة أنا قرأت إن ناس كتير اتكلموا عن الموسيقار عبد الوهاب، واحد قال إن عبد الوهاب فنان موهوب وإنما تنقصه الثقافة، وقال واحد تاني إنه لما بيسمع عبد الوهاب إنما يسمع الرصيد اللي له في البنك! إحنا ما زلنا مش فاهمين احنا بنعمل إيه، ناس بتخلط بين العربي والغربي، أنا أستاذ فنان بالحن لأم كلثوم يعني لازم أكون باعزف على البيانو؟ يكفي أن أكون دارس الموسيقى الشرقية وعبد الوهاب دارس الموسيقى القديمة مثل ألحان عبده الحامولي ومحمد عثمان"، وحين حاول محمد فوزي أن يتذكر، ذكرته زوجته باسم سيد درويش، فردد اسمه ثم واصل مرافعته عن عبد الوهاب الذي كان البعض أيامها يستخدم اسم فوزي في الهجوم عليه والتقليل من شأنه قائلاً: "وبالطبع زائد التواشيح والحاجات دي كلها، كما أن عبد الوهاب أستاذ في النغمات وأستاذ في كتابتها، ثم أنا متفق إن عند عبد الوهاب رصيد، بس عنده رصيد في الفن، يعني يخلي الناس تسمعه، إن عبد الوهاب معجزة فنية، عنده إحساس الفنان الصادق وأخلاق الفنان العالية، إن عبد الوهاب هو عبد الوهاب؟ مهما قالوا في الذهب، فالدهب دهب والا إيه؟!".
شعر محمد فوزي بالإرهاق بعد دفاعه الحماسي عن عبد الوهاب، فحاول أن يستريح في جلسته لكنه وجد مجهودا كبيرا وهو يحاول شد الملاءة إلى صدره، فأسرعت زوجته إليه لكي تسند رأسه وتغطيه، فقرر كمال الملاخ أن يغير جو الحوار وسأله عمن أرسل إليه باقة زهر أحمر جميل كانت إلى جواره، فقال له فوزي إنها من المستشار الثقافي المصري في واشنطن فتحي بهيج، وحين دخلت ممرضة لتنبه فوزي إلى موعد حقنة لم يكن أحد الأطباء المصريين الحاضرين لزيارة فوزي راضياً عنها، فقرر مراجعة طبيبه الأميركي فيها.
قرر كمال الملاخ أن يغير الجو المتوتر، فسأل فوزي عما يشاهده في جهاز التلفزيون الصغير الموجود بالقرب من سريره، فحاول فوزي أن يبتسم وقال له: "مش ممكن نتفرج على حاجة في التلفزيون هنا، ده بين كل دقيقة ودقيقة دقيقة إعلان؟ وحاجة ثانية غريبة جدا لاحظتها هنا في التلفزيون، الناس بدأـ تحب الحاجات الخرافية زي.. زي"، وحين طال استدعاؤه للاسم، تدخلت زوجته كريمة لتذكيره قائلة "زي مسلسلة الرجل الوحش ومغامرات جيمس بوند، الحاجات غير الطبيعية دي".
كان أجمل ما في هذه الخطابات تلك التي حملت بين سطورها بعض النُكت التي حاول من أرسلوها أن يبهجوا بها الرجل الذي كان ولا زال وسيظل باعثاً للبهجة
حين رأى كمال الملاخ تجاوب محمد فوزي في الحديث عن التلفزيون وبرامجه قرر أن يسأله عن البرامج التي كان يحرص على رؤيتها في التلفزيون المصري قبل سفره، فرد فوزي: "أحب المسرحيات الحية على الهواء، تبدو طبيعية، وعلى فكرة البرامج الموسيقية ما زالت عندنا تعرض على أسلوب حفلات التخت ما فيهاش تجديد"، وحين سأله عن البرنامج الذي لا يحبه، قال فوزي وقد توهجت روحه المرحة قليلاً: "لا حرام مش عاوز أقول عليه أحسن صاحبه يدعي عليّ"، فقال له الملاخ ضاحكاً: "يدعي عليك ولا تدعي عليك؟"، فلم يتجاوب معه فوزي وقال راغباً في تلطيف إجابته: "أنا ما قاصدش حاجة ولا حد والله، على فكرة أنا كنت سأقدم برنامج جديد في التلفزيون ولكن المرض هو اللي منعني، كنت حاعمل برنامج كل شهر، وكان فيه رواية حلوة كويسة الفها محمد كامل حسن، ولكن مرضي جعله يكسل إنه يكتب الحوار، موضوعها مثير وغنائي في ذات الوقت، فيه رعب وفزع وغناء، يعني حركة ومسرح ورقص، تدور فيها عدة جرائم كانت مكونة من 13 حلقة"، وحين قال له كمال الملاخ فيما تصور كونه إفيه: "بلاش رقم 13 ده"، لم يفهم محمد فوزي قصده وقال: "دي المفروض إنها مسلسلة من 13 حلقة".
لم تسمح حالة محمد فوزي بإطالة أمد الحوار، وحين استأذن كمال الملاخ في الانصراف، استوقفه محمد فوزي وقد تذكر شيئاً مهماً، وقال له: "والنبي فيه حاجة، دول اللي بعتوا لي جوابات من مصر، من البلاد العربية وحياتك يا كريمة هاتي الجوابات"، لتفتح كريمة درجا يجاور سريره فيراه كمال مكدساً بحوالي مائتي خطاب عبرت الأطلنطي إليه تسأل عن أخباره وتدعو له بالشفاء، وكان أجمل ما في هذه الخطابات تلك التي حملت بين سطورها بعض النُكت التي حاول من أرسلوها أن يبهجوا بها الرجل الذي كان ولا زال وسيظل باعثاً للبهجة. عليه ألف رحمة ونور.
...
تبرعوا لأميرات آل عثمان
في عددها الصادر بتاريخ 14 ديسمبر 1928 وتحت هذا العنوان، نشرت مجلة (المصور) السطور التالية:
"اهتم فضيلة الأستاذ عبد العزيز جاويش في الأسبوع الماضي بإحياء ليلة غنائية وقف ريعها على إعانة بعض أميرات الأسرة السلطانية العثمانية السابقة لما آل إليه مصيرهن من البؤس والشقاء بعد ما أبعدتهن الحكومة الكمالية الحالية عن بلاده، أسوة بأمراء أسرتهن، واستولت على ممتلكاتهن وأموالهن ولم تعين لهن مرتبات تساعدهن على عيشهن بما يتناسب وكرامتهن ومجد محتدهن، مع أن الحكومة الجمهورية الألمانية لم تضن على الامبراطور غليوم الثاني وأفراد بيته بمرتبات ضخمة تمكنهم من تمضية بقية حياتهم محترمي الجانب. وقد ألفت بعض الأميرات التركيات مصر خير موئل يلجأن إليه في محنتهن لما يلقينه من بعض أهل البر من أبناء دينهن من العطف عليهن في بؤسهن، ومن أيام قليلة أخبرتنا إحداهن أنها قررت خوض معترك الحياة العامة لتكسب عيشها بعرق جبينها وأنها اتفقت مع احدى الشركات الكبيرة للتأمين على الحياة على أن تعمل لحسابها في القاهرة والاسكندرية فتجلب لها الزبائن ليومنوا على حياتهم عندها في مقابل أجر معين تتقاضاه على ذلك فأكبرنا فيها هذه الروح الشريفة".
سبحان من له الدوام.
...
الفقرة الإعلانية:
بمناسبة حديثنا عن محمد فوزي رحمه الله، هذا نص الإعلان الذي نشره لفيلمه الجميل (ورد الغرام)، والذي كان يبدو أنه في غاية الرضا عن مستواه الفني والفخر به، طبقاً لما جاء في نص الخطاب الإعلاني الذي نشرته صحيفة (المصري) الأشهر والأنجح وقتها بتاريخ 31 ديسمبر 1950:
كان فن الإعلان قد تطور كثيراً في النصف الأول من القرن العشرين وجاوز هذه الصيغ الخطابية، لكن محمد فوزي كانت لديه شحنة انفعالية قرر أن يفرغها في ذلك الخطاب الذي كان يشبه الإعلانات التي تنشر في أول القرن العشرين، مثل هذا الإعلان الذي نشرته صحيفة (مصر الفتاة) بتاريخ 26 ديسمبر 1908 للترويج للمستحضرات الطبية لواحد من أهم موزعي الأدوية والمستحضرات الطبية وقتها، وسأترك لك تأمل أسعار الأدوية وتوصيفاتها:
كمثال لحديثي عن تطور شكل الإعلانات في الصحافة المصرية، سأضع بين يديك هذا الإعلان الذي نشرته مجلة (الدنيا المصورة) في مايو 1930 ضمن حملة لمكافحة المخدرات:
وإذا كانت أسعار الأدوية في إعلان مستحضرات نصوحي قد قلّبت عليك المواجع، فربما تقلّبت عليك أكثر حين ترى هذا الإعلان الذي نشر بتاريخ 1 يناير 1950 كبشرى للمواطنين بانخفاض الأسعار:
وختاما مع الكاريكاتير:
في عددها الصادر بتاريخ ديسمبر 1933 نشرت مجلة (الفكاهة) الصادرة عن دار الهلال هذا الكاريكاتير: