الشرق الأوسط الإسرائيلي!
يتذكر من عاش فترة التسعينيات مصطلح "الشرق الأوسط الجديد" الذي روج له لأول مرة وزير الخارجية والرئيس السابق لدولة الاحتلال شمعون بيريز، وقصد فيه بيريز "مثلث: رأس المال العربي، اليد العاملة العربية، العقل الإسرائيلي".
وعقب قرابة ثلاثة عقود من رؤية بيريز، تتصاعد الدعوات والتحركات في المنطقة لدمج إسرائيل، واعتبارها كياناً طبيعياً، وآخر تلك المشاريع صفقة القرن التي يجري تطبيقها رغم خروج عرابها الرئيس السابق دونالد ترمب من المشهد، صحيح أن ترمب هو من أطلق تلك الصفقة، لكن صحيح كذلك أنها ليست خطته، إذ لم يتعد دوره ترجمتها من العبرية للإنكليزية لأن الخطة في حقيقتها إسرائيلية خالصة.
وفي سياق تسابق العرب أو بعضهم لتطبيق رؤية وخطة بيريز، وقعت الرباط وتل أبيب اتفاقية قالت وزيرة داخلية الاحتلال، الثلاثاء، إنها ستدخل حيز التنفيذ لجلب العمالة المغربية لإسرائيل، ما يؤكد على أن كل ما يجري هو تطبيق حرفي لما نظّر له وبشر به شمعون بيريز في كتابه بمطلع التسعينيات: شرق أوسط جديد: تعمل فيه المنطقة كلها بأنظمتها وشعوبها لصالح إسرائيل وفي خدمتها.
العودة لقراءة هذا الكتاب برأيي هي مفتاح لفهم ما يجري اليوم من مساع هذه المرة بأيد ومبادرة عربية لدمج إسرائيل وتعميدها قائدة للمنطقة، وهو أمر فاق حتى ما كان يحلم به بيريز نفسه ومؤسس الكيان هرتزل من قبله. كانت أسعد أحلام الرجلين ربما أن يُقبل كيانهم في المنطقة، لا أن يهرول له العرب ويخطبوا وده ويتحالفوا معه. يجري كل ذلك وسط قناعة تولدت لدى بعض قادة الدول العربية والخليجية تحديدا مفادها أن مفتاح أمن المنطقة بيد تل أبيب، وأنها الوحيدة القادرة على تأمين عروشهم، لذا لا مانع لديهم من أن تُرَكّب إسرائيل كاميرات في كل شارع وحي في بلدانهم، وحتى في غرف نومهم!
رغم كل ما تعانيه فلسطين، وسطوة الاحتلال ودمويته ووحشيته، فإن لا قلق على مستقبل القضية الفلسطينية وقدرة الشعب الفلسطيني على مواصلة نضاله ضد أعتى نظم الفصل العنصري
كل التحليل السياسي والعلمي ومحاولة تفكيك وفهم اندفاعة بعض الأنظمة العربية وتحديدا الخليجية للتطبيع مع إسرائيل تخفق في تفسير تلك الاندفاعة والهرولة، ولا تقدم إجابة شافية وافية. وبرأيي فإن محاولة تلك الأنظمة ترويج أن التطبيع يأتي في سياق تشكيل محور لمواجهة التهديد الإيراني غير صحيحة مطلقا، فلن تحمي إسرائيل الخليج ولن تحارب من أجله، والشواهد عديدة على ذلك.
السبب الرئيسي لتلك الاندفاعة التطبيعية والتحالف العربي الصهيوني برأيي يكمن في خشية تلك الأنظمة من شعوبها، والرعب من تجدد الحراكات الشعبية كتلك التي شهدتها المنطقة في عقد الربيع العربي، والدليل على ذلك أن كل ما تحصلت عليه الدول العربية من تل أبيب حتى اللحظة لا يعدو كونه أنظمة تجسس على شعوبها وكاميرات مراقبة، ولا يتضمن أسلحة ولا منظومات عسكرية، بل إن إسرائيل تعرقل صفقات حلفائها العرب العسكرية مع واشنطن!
أما مقاربة إسرائيل في ترحيبها بالهرولة العربية نحوها فتتلخص في تحقيق مكاسب اقتصادية لصالح الاقتصاد الإسرائيلي وهو ما تحدث عنه بيريز ونتنياهو من جهة، ومن جهة أخرى معاونة تلك الأنظمة المستبدة على مواجهة أي حراك ديمقراطي وإسنادها في قمع شعوبها، لأن تل أبيب تدرك أن الخطر الحقيقي ليس إيران ولا تلك الأنظمة المستبدة، إنما هو شعوب المنطقة وهويتها وضميرها وثقافتها العربية والإسلامية.
إسرائيل جسم غريب ركب في جسد المنطقة، هي كذلك دولة فصل عنصري والمعادلة الطبيعية أن تتحالف مع النظم العربية المستبدة، لأن العدو المشترك هو الديمقراطية التي إذا ما نجحت في المنطقة فإنها تهدد الأنظمة المستبدة، بالقدر ذاته الذي تهدد فيه إسرائيل التي هي نظام فصل عنصري متحالف بالضرورة مع الاستبداد ولا يمكنه أن يعيش في بيئة ديمقراطية يمثل فيها سكان المنطقة تمثيلاً حقيقياً.
إسرائيل التي تدخل الانتخابات رقم (5) في أقل من ثلاثة أعوام تعيش أزمة سياسية، وأزمة هوية، ورواية ضعيفة لا يعول عليها، هي لم تنجح رغم كل ما قامت به في حسم صراعها مع الفلسطينيين الذين يواصلون إفشال مشاريعها، ورفض الاستسلام لغطرستها. من جهة أخرى فإن إسرائيل ذاتها باتت تعيش قلقا مركبا جراء انكفاء الدور الأميركي في المنطقة، وانسحاب واشنطن منها وتواتر التقارير عن عزم الأخيرة على التوصل لاتفاق جديد مع طهران.
ما يجب ألا يكون محل شك هو أن أمن دول الخليج لا يمكن تأمينه من البوابة الإسرائيلية، إنما يخترق منها، كما أن الأمن القومي العربي بات مهدداً بشكل لم يحدث منذ حقبة ما بعد الاستعمار، إذ أعيدت صياغة مفهوم جديد وزائف للأمن القومي العربي، تبدو فيه إسرائيل حليفاً، كما تتعرض أكبر دولة عربية وهي مصر لمخاطر انهيار اقتصادي، وعطش مائي على وقع تهديد إثيوبيا الخطير لمنابع النيل، إضافة لخروج سورية والعراق من دائرة الفعل، مضافة إلى كل ذلك مخاطر مجاعات قد تجتاح الدول العربية على وقع الحرب الأوكرانية الروسية، وانعدام التنمية المستدامة في العالم العربي الذي تحكمه أنظمة عسكرية لا تعرف معنى التنمية وإنما تجيد نهب الثروات وتحويل البلاد لمزارع خاصة، وصراعات دامية واجهت فيها تلك النظم شعوبها بأعتى آلات الحرب، واستنفدت قدرات جيوشها في ذلك.
رغم كل ما تعانيه فلسطين، وسطوة الاحتلال ودمويته ووحشيته، فإن لا قلق على مستقبل القضية الفلسطينية وقدرة الشعب الفلسطيني على مواصلة نضاله ضد أعتى نظم الفصل العنصري والوحيد الباقي منها، لسبب بسيط أنه يعرف إسرائيل تماماً، وخبرها منذ أكثر من 100 عام ونيف، لكن المشكلة الحقيقية أن من يطبعون معها اليوم يجهلونها، إسرائيل التي تتجه نحو الخليج ليست جمعية خيرية، إنما قوة احتلال مدججة بالسلاح النووي والدعم الغربي، والمحتل لا يندمج ولا يتعايش وإنما يواصل احتلاله وعدوانه، لأنه الشيء الوحيد الذي يجيده، ولأن منطق القوة يقول إنه لن يفعل إلا ذلك.