الصحف الورقية: ماضٍ مشرق وحاضر يتجه إلى الاضمحلال
وليد موحن
قبل الغزو الرقمي كان الفاعل الورقي هو الأساس الرئيسي في معرفة خبايا العالم وقضاياه، ومنبت التحليلات، ومكمن التصورات والمطارحات، حيث كانت الجرائد الورقية منتشرة في المقاهي، بحيث ينكب الناس صبيحة على مطالعتها، والسفر في زادها، كما كنت تنفذ أوراقها في حيز مبكر من اليوم، وقد لا تعثر على نسخة في الظهيرة.
وقد كانت عامرة بالأخبار الثرية، والمقاربات الغنية، إذْ إنها أسهمت في تكوين جيل من الباحثين، وزمرة من الدارسين، وشكلت بوابة للناس من أجل النهل مما يموج به المحيط الدولي والإقليمي والمحلي من قضايا جوهرية. كما كانت منارة يكتب فيها الفلاسفة والمؤرخون، ويستعرضون فيها طروحاتهم، ويناظرون فيها بعضهم.
لقد كان ماضي الصحف موسوماً بالتألق والازدهار قبل أن يقع الانهيار لعدة أسباب، ومنها تراجع نسب القراءة، واتجاه الناس نحو الهواتف الذكية والتصفح السريع والرغبة في تحصيل المعرفة عبر ضغطة زر.
إن نسب القراءة في العالم العربي تعيش واقع التدني، ولا شك في أن ذلك لعدة أسباب يطول الحديث عنها، والصحف انعكس عليها هذا التجلي ولا شك، بحيث لا يخصص الناس إلا لماماً وقتهم لقراءة صحيفة معينة، أو حتى النظر في عناوينها. والحق يقال إن بعض الصحف لم تعد تقدّم منتوجات رصينة، كما كانت عليه في السنوات الماضية من أعمدة ثقافية ونقاشات قويمة.
كما يسجل تراجع المنتوج والصفحات الثقافية في الجرائد اليومية والأسبوعية، حيث أضحت في بعضها لا تلهث سوى وراء الفضائح وعالم الشهرة، تماشياً مع متطلبات المجتمع الذي يحبذ عامة هذا التوجه.
كما يسجل تراجع المنتوج والصفحات الثقافية في الجرائد اليومية والأسبوعية، حيث أضحت في بعضها لا تلهث سوى وراء الفضائح وعالم الشهرة، تماشياً مع متطلبات المجتمع الذي يحبذ عامة هذا التوجه
كما أن التكنولوجيات الحديثة، وإمكانية معرفة الأخبار بطريقة سريعة وملفتة، جعلت الإنسان يتوق إلى معرفة الخبر بسرعة قياسية مقارنة بالخبر الذي توفره الصحيفة بعد حين أو بعد أن لا يعد الخبر ذا قيمة، لا سيما أن المواقع الإلكترونية توفره في ساعته وإبان وقوعه.
لكن نعمة الورقي لا تضاهيها أي نعمة، إذ يعيش معها الإنسان في قلب الحدث، بعيداً عن الرقمي ومطباته الكثيرة وأخباره المزيفة العديدة، على الرغم مما يفرضه على واقعنا من ضرورة قصوى.
لقد عملت المجلات والصحف الورقية، وتماشياً مع التطورات التكنولوجية، على بث مواضيعها عبر صفحاتها الرقمية، من أجل تعزيز نمط المقروئية، ولكن أضحى الفرد لا يبتغي قراءة مواضيع طويلة، وعناوين عريضة، بل إنَّ السرعة في عرض الفيديوهات والحصول على المعلومات بأقلّ جهد ومدخرات أضحى هو الخيار السهل للمتلقي.
مع تسجيل أن البعض من الناس وعلى الرغم من وازع الرقمنة المنتشر في الآفاق لا يسترعيه سوى عالم الصحافة الورقية، وتقليب المجلات المكتوبة، ويرى أنَّ للورقي عالمه الخاص الذي لا توازيه أي نعمة. وحتماً جلّ هؤلاء ينتمون إلى الجيل القديم الذي ذاق مذاق الصحف في قمتها، وجعل الكتاب والصحيفة خير رفيق له في الحال والترحال.
لا شك في أن عالم الورقي يعيش آخر أيامه وساعاته، فالكلّ أضحى منشغلاً بعالم التكنولوجيات الحديثة والذكاء الاصطناعي وما توفره الرقميات من فرص وتحديات، مما يتطلب مزيداً من الصمود للعالم الورقي الذي يحتاج إلى ثورة موازية من أجل الحفاظ على مكانته.
نافل القول: للصحف الورقية ميزة وميسم خاص لا يستشعره سوى من عاش في كنهه، وللرقمي مجال حديث يستوعبه ويتوازى مع متطلبات الفرد في أوج التكنولوجيا، وبين هذا وذاك لا مناص من القراءة، سواء في الصحف الورقية المستحبة والرصينة، أو عبر ما توفره التكنولوجيا من إمكانات ضخمة، بشكل سريع داخل المجال الوطني أو عبر السياق الدولي.