القراءة كوسيلة للنجاة
لقد عِشْتُ إلى الآن، وأنا ما زلت في منتصف العشرينات، المئات والمئات من الحيوات المختلفة؛ الواقعية منها أو المتخيلة. وذلك لأنني تعلمت فن القراءة، تعلمته بمفردي بقدرتي الشخصية على القراءة المغايرة، تعلمته منذ أن شعرتُ بالوحدة والاكتئاب والاغتراب عن محيطي المجتمعي، فكان هذا الفعل السحري منقذي الوحيد عندما خذلني العالم.
انسجمت مع هذه الحيوات بكلّ تفاصيلها، من أحاسيس ومشاعر ومخاوف وحزن وغضب وحب وكره وسخرية ولذة وألم ويأس وأمل... كلّ هذه المشاعر المتناقضة والمتغيّرة عشتها، وكوّنت جزءاً كبيراً من شخصيتي.
يقول الناقد الأميركي المعروف، هارولد بروم، في كتابه "كيف نقرأ؟ ولماذا؟": "القراءة هي ممارسة شخصية، هي أكثر من مجرّد مؤسسة تعليمية. نقرأ بطريقة شخصية، لأسباب مختلفة، معظمها معتاد لدينا: لأننا لا يمكننا أن نعرف، بعمق، كلّ الناس الذين نرغب في معرفتهم، ولأننا نحتاج أن يعرف بعضنا بعضاً، بشكل أفضل، ولأننا بحاجة إلى معرفة كيف نحن، وكيف هم الآخرون، وكيف تسير الأمور؟ تتم القراءة لتطوير الشخصية الخاصة، وتتم القراءة لأنها مصدر للمعرفة والحكمة، وتتم ليتعلم المرء التفكير، وإعمال النظر للعثور على ما هو فريد من نوعه، ويشترك فيه مع شخصيات، ومع حكايات وأحاسيس، في مناسبات بعيدة، في المكان وفي الزمان. وتتم القراءة أخيراً لأجل المتعة البسيطة والأنانية للقراءة".
دائماً ما أكنت أذهب للكتبِ وأنا مثقلٌ بالجراح، محمل بالأحزان والخيبات، فلا تردّني سوى بالتعافي والحنين والألفة
ومن هذه النقطة أرى أنّ القراءة هي فعل أناني متفرّدٌ ومتمرّد في نفس الوقت، هذا التفرّد الذي يميّزك عن الآخرين، ويجعلك ضمن القلّة التي تشاركك هذا التفرّد الناتج عن الاختلاف.
بنيت لنفسي حاجزاً يفصلني عن الواقع وجحيمه المعتاد، وروتينه المتسارع والجنوني. ألتقط أنفاسي من الجلوس مع كتاب، والبدء في استخلاص كلماته ومعانيه في هدوء. كأنّ هذا الفعل هو قرص دواء لإزالة التوتر والقلق وتهدئة النفس. ومع الاستمرار والتوّغل في القراءة تنفتح أمامي أبواب كانت مغلقةً، مشاعر كان يمكن لها أن تظلّ حبيسة تنتظر من يشعلها، من يبثُ فيها الحياة، ويملؤها بالنبض والانتعاش من خلال ترديدها على شفاه قارئ مثلي، يود لو كان هو من عاش هذه المشاعر. ولكن اعترض عليّ هذا التعثر، فأقول لنفسي "لا تنغمس في المعاناة، فأنت لا تحتاج أن تعيش هذه المشاعر حقيقةً، فأنت قرأتها فقط أيها الأحمق، وهذا جعل مخيلتك تتحسّسها وتستنطقها وتخرجها من سكونها البارد إلى قلبك المعذب البائس".
نعم، أنا أدين لهذه المساحة الصغيرة التي أجلس فيها وأمسك بكتاب جديد مع مشروبي المفضل (كوب شاي)، ومن ثم أبدأ طقوس الراحة والاستجمام. هذا فعلٌ تعويضي عن الخذلان والشعور بعدم الاستحقاق والعجز. فعل القراءة بالنسبة لي هو فعل استرداد الحماس بعد الفتور، شحن طاقة العقل بالفكر والنقد، إعطاء النفس قدرة أكثر حميميةً على الحلم رغم كابوسية الواقع وقتله المتعمّد للأحلام. فعل القراءة هو نوعٌ من التمرّد الصامت وممارسة الحرية في أبهى صورها بعيداً عن التلصّص وديكتاتورية الجموع.
فعل القراءة هو نوعٌ من التمرّد الصامت وممارسة الحرية في أبهى صورها بعيداً عن التلصّص وديكتاتورية الجموع
فالقراءة هي وسيلتي لتجميع شتات روحي المبعثرة، للبحث عن أجوبة لأسئلتي العالقة في منتصف المسافة بين الأمل واليأس. فدائماً ما أكنت أذهب للكتبِ وأنا مثقلٌ بالجراح، محمل بالأحزان والخيبات، فلا تردّني سوى بالتعافي والحنين والألفة، كأنها حبيبتي المتخيّلة والمشتهاة، أنهل من مفاتنها بتلذّذ وعن طيب خاطر.
نعم أستطيع أن أمتلك الجرأة لأقول إنّ الكُتب هي فاتنتي الأولى ومعشوقتي الفريدة، وهي سلاحي الوحيد والأكثر فاعليةً في مواجهة العالم، وعدم الاستسلام لقُبحه وعنفه وسحقه الدائم للإنسان.
ولن أجد أجمل من هذا المقطع من كتاب السيرة الذاتية البديع للممثلة العظيمة، ليف أولمان، تحت اسم "أتغير"، لأختم به هذا المقال حيث تقول: "لطالما اعتبرت الكتب كائنات حية بعد أن صادقت مؤلفين غيّروا حياتي قليلاً، فبينما أمر بفترةٍ ارتباك عندما أبحث عن شيء لا أستطيع تحديده، إذا بكتاب معين يظهر، ويتقدم مني كما يفعل صديق، ويحمل بين دفتيه الأجوبة والأسئلة التي أفتش عنها".