عن بلال فضل الذي أحبّ
قبل البدء بكتابة مراجعة عن الرواية الأولي لواحد من كُتابي المفضلين بلال فضل، "أم ميمي"، يجب أن أوضح أن فَضلَ بلال فضل عليّ كبير في تكوين رؤيتي الثقافية وذائقتي الأدبية والفكرية من خلال مقالاته وبرنامجه الممتع "عصير الكتب"، الذي فتح لي الطريق لكتب وكتّاب مهمين من خلال ترشيحاته ومقابلاته معهم، فمن خلالها تحولت ذائقتي الأدبية واختياراتي في الكتب والقراءة إلى ما هو أعمق وأكثر قدرة على إضافة أبعاد وآراء وأفكار أخرى لشخصيتي.
بلال فضل شخصية جدلية ومختلف عليها من الجميع. فالإسلاميون يكرهونه، والناصريون يكرهونه، وبعض الثوار المتعصبين يكرهونه. ولذلك أنا أحبه، لأنه أقنعني بأن أبعد عن فكرة الثنائيات والأبيض والأسود، وأن أكون دائماً في المنطقة الرمادية التي يكون فيها الإنسان ذا رأي مستقل ومُركّب، وهذا هو التحدي الصعب، لأن الثنائيات مريحة والنظام القائم من 1952 زرع في عقلية الشعب فكرة الثنائيات لكي يغرق فيها، ولا يكون له وقت أو قدرة على التفكير المستقل، فإما أن تكون مع أو ضد. ولهذا أدين لبلال بالكثير، لأنه علمني أن أكون متصالحاً مع أخطائي، وأن تكون لدي شجاعة الاعتراف بها وتصحيحها دائماً، لأن الحياة أكثر تعقيداً من البكاء على الأطلال.
بلال فضل شخصية جدلية ومختلف عليها من الجميع، فالإسلاميون يكرهونه والناصريين يكرهونه وبعض الثوار المتعصبين يكرهونه. ولذلك أنا أحبه
أما في ما يخص الرواية البديعة "أم ميمي"، التي استمتعت بكل حواسي بالتجربة الممتعة والمؤلمة والساخرة والكاشفة والعبثية لرحلة بلال فضل مع سكن "أم ميمي" وعائلتها المريبة، التي تنتمي إلى قاع المجتمع، إذا جاز لنا التعبير، فيحكي لنا بلال فضل، وهو حكّاء من طراز رفيع، صاحب قدرة سحرية على أن يجذبك نحو ما يكتب من أول سطر مهما كان الموضوع، عن تجربته في السكن بمنطقة تنتمي إلى العشوائيات في إحدى المناطق المتفرعة من شارع الهرم في بداية التسعينيات، في أثناء دراسته في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، والظروف التي اضطرته إلى ذلك هو خلاف عائلي أبوي بطبيعة الحال، ومحاولة إثبات نفسه وتحقيق شخصيته وتحديه لأبيه بأنه قادر على أن ينجح ويستقل دون الحاجة إلى مساعدته. ومن هنا تبدأ رحلة بلال فضل مع أم ميمي وابنها وسيم المظهر والصعب وعبثي الشخصية والجوهر وزوجها شعراوي الزناوي، وهو لقب ستكتشف من خلال الرواية لماذا اكتسبه.
اللغة في الرواية واقعية جداً وصادمة للبعض من فرط واقعيتها، ولكن الواقع دائماً هو صادم وقبيح، ومحاولة تجميل الواقع من خلال اللغة هو في رأي خيانة وتدليس للنص، فأنا لم أجد أي ابتذال أو إفراط في استخدام العامية السوقية، ولكن كان في موضعها الأصلي، والذي من خلال السرد لا يقبل إلا أن تكون تلك طبيعة الحوارات، لأن الواقع المعيشي واليومي لتلك الفئة خليط من العفن والقباحة ممزوجة بالفقر وانعدام الأخلاق.
ما أعجبني وأثار تفكيري من خلال تتبع شخصيات الرواية، أن الكل في نظر الآخر مجرم وفي نظر نفسه ضحية بطريقة ما، والكل يتآمر مع الكل لصالح نفسه، في دائرة جهنمية لاستخلاص أكبر قدر من المصلحة أو المنفعة إذا جاز لنا التعبير. وما لفت نظري أيضاً، هو هذا التواطؤ الخفي بين مؤسسة الشرطة وبيوت الدعارة في تلك المناطق الخفية والتغاضي عنها لمجرد المصالح المشتركة، وأن هذا العفن متوغل بمساعدة الأجهزة المنوط بها تجريمه وإيقافه. تظهر في الرواية قدرة بلال فضل على استخلاص جوانب خفية ومختلفة وأحياناً إنسانية من الشخصيات الرئيسية في الرواية، سواء أم ميمي أو ابنها ميمي أو شعراوي.
يتجلى ذلك من خلال لحظة وفاة أم ميمي وما تلاها من ظهور شعراوي الزناوي، بالرغم من تواطؤ الجميع في دائرة مغلقة على كاتبنا لإبقائه أطول فترة ممكنة في دائرتهم ومحيطهم العفن، لأن المصلحة تقتضي ذلك. رواية شديدة السخرية القاتمة، التي برغم واقعيتها، لن تفقد قدرتك على الاستمتاع بها. أنتظر الجزء الثاني بفارغ الصبر، لاستكمال حكايات بلال فضل البديعة، ومشواره الذي أتعلم منه كيفية مواجهة عبثية الحياة و"خوازيقها" على حد تعبيره. الرواية دخلت القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية، وهي للأسف ممنوعة من التداول في مصر، لأسباب شخصية مع بلال فضل لمواقفه مع النظام، ولكن ذلك لم يمنع الجميع من قراءتها، سواء بطرق شرعية أو بأخرى غير شرعية، فدائماً الممنوع مرغوب.