القوات المسلحة والحكم الديمقراطي... أيّة علاقة؟
فتحت الانتفاضة الشعبية في السودان في ديسمبر/ كانون أوّل من العام 2018، البابَ أمام قضايا عديدة، لم تكن حاضرة في النقاشاتِ اليومية، ولا الشأن العام. على رأس هذه الملفات، الإصلاح الأمني والعسكري.
استطاعت القوى السياسية، ممثلةً في قوى إعلان الحرية والتغيير، عبر المناخ الثوري الذي تزامن مع اعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة أن تطرح هذا الموضوع، وتعمل على تشكيل الرأي العام حوله، لدرجة أنّ بعضَ ما طُرِحَ باتَ من المسلّمات لدى الكثيرين. وهنا، ظهرت مطالب على شاكلة "مجلس سيادة مدني بتمثيل عسكري محدود" وتبعية المؤسسات العسكرية، سواء أكانت ذات غرض مدني أو عسكري، لنفوذِ المدنيين. وتطاولت قائمة الأماني للدعوة ببناء جيش قومي مهني جديد، يُراعي الثقل السكاني للسودانيين.
ولأنّ هذا الموضوع فُتِحَ لأوّل مرّة في الفضاء العام، كانت الأفكار الأولى عنه مرجعية يستند عليها الناس، بالرغم من أنّ العالم والعلاقات المدنية العسكرية لا تمضي بهذا الشكل. فعلى سبيل المثال، أمضت دول أميركا اللاتينية مثل تشيلي، والأرجنتين، والبرازيل عقوداً عديدة حتى استتبَّ الأمر لمصلحة المدنيين. وهذا لا يعني بالضرورة غياب الجيش عن الشأن العام، بل ظلّ حضور الجيش في المشهد، يشهد مدّاً وجزراً في هذه الدول دون أن يهتف الناس: "لساها ما سقطت... لسة الحكم عكسر". كما أنّ إخضاع القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، أمرٌ لا يتم بمعزل عن إصلاحِ بقية أجهزة الدولة، مثل الأجهزة العدلية وغيرها. كما أنّ الدعوة إلى بناءِ جيشٍ جديدٍ تتبعها شكوك؛ إذ إنّ الجيوش في المنطقة التي تم بناؤها بعد تفكيك العراق أو تفكّك ليبيا لا زالت تعاني الأمرين، بل إنّ الوضع في ليبيا صارَ من الخطورةِ بمكان حيث باتت المجموعات المسلحة من أكبر الفاعلين في الاقتصاد السياسي.
إخضاع القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، أمرٌ لا يتم بمعزل عن إصلاح بقية أجهزة الدولة
لقد كان تناول قضية العلاقات المدنية العسكرية في فترة ما بعد إطاحة البشير كارثياً، ولازمته هتافية وشعبوية كبيرتين. وقد أثبتت ثورات الربيع أنّ موقف القوات المسلحة تجاه أيّ حراك شعبي هو العامل الحاسم في نجاحِ هذه الانتفاضات، أو فشلها. لكن السودان لم يكن في حاجة إلى ثورات الربيع العربي ليتعلّم عن أهمية الجيوش، بل من المؤكد أنّ توجّه المتظاهرين إلى القيادة العامة للقوات المسلحة هو اعتراف ضمني بأهميةِ هذه القوات.
عاد موضوع القوات المسلحة وتسييسها على السطح بعد البرنامج الحواري بين الإعلامي الطاهر التوم وسناء حمد القيادية في المؤتمر الوطني. في الحوار، أشارت سناء حمد أنّها أخذت إفادات من قيادات القوات المسلحة لمعرفة أسباب الانقلاب على البشير. اتخذت القوى السياسية هذا الحديث دليلاً دامغاً على تسييس الجيش، رغم أنّ الحديث يمكن الخروج منه بغيرِ هذه الخلاصة. فحسب سناء، أشار وزير الدفاع، عوض ابن عوف، أنّ هذا التحرّك كان للحفاظ على تماسك القوات المسلحة التي بدأ ضباطها بالتملّمل من نظام الإنقاذ. بالتأكيد، هذا التململ لم يأت من فراغ، بل لأنّ الضباط وصفّ الضباط هم جزء من المجتمع السوداني، يتفاعلون مع قضاياه، لا بمعزل أو اغتراب عنها، لذلك بدأت الأصوات الرافضة للنظام في الظهور بالتزامن مع الحراك الشعبي، وإن كان في أشكال أخرى غير التي يعرفها العمل المدني المعارض. ما يعني أنّ فرضية تسييس الجيش تصطدم بعقيدةِ العسكريين الذين رغم ارتباطهم التنظيمي بهذا الكيان أو ذاك، لديهم خطوط حمراء متمثلة في الحفاظ على تماسك القوات المسلحة.
لم تكن هذه المرّة الأولى التي يكون فيها موقف الضباط داخلياً سبباً لإطاحة نظام ما؛ فقد كانت انتفاضة مارس/ إبريل 1985 على النهج ذاته. أتى الفريق أول عبد الرحمن سوار الذهب على رأس قيادة القوات المسلحة بعد يناير/ كانون الثاني من العام 1982، وهو العام الذي شهد إقالة أكثر من عشرين ضابطاً من الذين اجتمعوا مع نميري، معبّرين عن رفضهم للفساد والوضع الاقتصادي والسياسي في البلاد، ودعوتهم له بالتحرّك. تبوّأ سوار الذهب هذا المنصب لثقة نميري به ضابطاً وفياً للعسكرية وقائده جعفر نميري. لكن سوار الذهب ركلَ الولاء لقائده جانباً، عندما أحسّ بالخطر على المؤسسة العسكرية، وخوفه من حدوث انشقاقات داخلها، بل إنّ حادثة العام 1982 لا يمكن النظر إليها بمعزل عن هذا؛ فرغم أنّ النظام استببَ لنميري، وفعل ما فعل بالقوات المسلحة من تطهير وغيره، فقد تكوّن تيار رافض لسياسات نميري من داخل القوات المسلحة. إنّ ضباط الجيش الذين شهدوا عصر "المهنية" بعيد الاستقلال، وطاعة الأوامر والضبط والربط، هم أنفسهم من رفضوا إطلاق النار على المتظاهرين في أكتوبر/ تشرين الأوّل من العام 1964، وهو ما ساهم في إطاحةِ النظام.
أيّ حراك لا ينجح في استمالة القوات المسلحة أو تحييدها، مصيره الفشل، أو تفتيت البلاد
من السذاجة الزعم بأنّ القوات المسلحة بوصفها مؤسسةً يمكن أن تكون داعمة للديمقراطية أو التحوّل الديمقراطي، وذلك ليس لشكلها الحالي فحسب؛ بل لأنّ الجيوش بطبيعتها مؤسسات غير ديمقراطية، مثلها مثل باقي المؤسسات البيروقراطية، كالقضاء والنيابة وغيرهما، لكن القرارات التي تتخذها القوات المسلحة تجاه الحراكات الشعبية والثورات، نابعة من تفاعلات أفرادها، الذين هم جزء من المجتمع، وهو مربط الفرس. كما أنّ الخط الأحمر العريض، تماسك القوات المسلحة، يدفع أفرادها وقياداتها إلى تبني خيارات ليست مرغوبة لديهم مطلقاً، ولا تخدم انتماءاتهم. وإن كانت النظرة إلى الانقلابات تمثل دليلَ إدانة على القوات المسلحة، فمن باب أولى النظر إلى الظروف التي سبقت تلك الانقلابات؛ والتي دوماً ما تزامنت مع محاولات الإقصاء والإبعاد من المجال السياسي.
ومن ثم، بدون استمالة القوات المسلحة، والذي يحدث بصورة عفوية من دون تحريض أو تظاهر عبر تسرّب الغضب والسخط داخل أفراد المنظومة العسكرية، لن ينجح حراك سياسي في تحقيق مكاسبه. كما أنّ عملية ترسيخ حكم ديمقراطي، وإصلاح المنظومة الأمنية عملية طويلة تذهب خطوة وترجع ثلاثاً، ولا يمكن النظر إليها بمعزل عن إصلاح المنظومة السياسية وقبولها بقواعد الديمقراطية، لكن من المؤكد أنّ أيّ حراك لا ينجح في استمالة القوات المسلحة أو تحييدها، مصيره الفشل، أو تفتيت البلاد.