عسكر أم أحزاب؟ دروس من تجربة الترابي
إنْ كان تجاهل العديد من الإسلاميين بالسودان إخفاقاتِ تجربة الحركة الإسلامية في الحكم، لمدّة ثلاثة عقود، نابعا من منطق "الجمل ما بشوف عوجة رقبتو"؛ فما الذي يدفع القوى السياسية الأخرى لعدم الاستفادةِ من الدروسِ والعِبر التي قدّمتها هذه التجربة؟
وصول الحركة الإسلامية إلى سدّة الحكم عبر انقلاب عسكري (1989)، يختلف عن تجربتي إبراهيم عبود (1958) وجعفر نميري (1969)؛ حيث إنّ الأولى كانت بطلبٍ وتنسيقٍ من رئيس الوزراء، عبدالله خليل، وقيادات حزب الأمة مثل الصديق المهدي دون أن يكون لهم تصوّر، أو خطّة لما بعد "التسليم والتسلم"، بينما شارك الحزب الشيوعي في ما بعد في انقلاب نميري، ولم يكن جزءاً من التخطيط والتنسيق له.
أمّا تجربة الحركة الإسلامية، فهي تجربة شاملة، بدايةً من التخطيط والتنسيق، مروراً بتكتيكاتِ التنفيذ، انتهاء بما سيتم عمله بعد الانقلاب، وكيفية إدارة جهاز الدولة. إن كان هنالك درس قيّم وضرورية معرفته في هذه اللحظة الحرجة من تاريخنا، فهو كامن في ما يمكن أن نستشفه من تجربة الإنقاذ؛ أي فشل المراهنة والاستقواء بالجيوش لتحقيق وإنفاذ مشروع سياسي بحذافيره لصالح القوى المخطّطة للانقلاب.
لا يمكن النظر لمشروع الحركة الإسلامية في السودان دون أن تكون شخصية الدكتور حسن الترابي شخصية مركزية فيه. فالرجل قاد الحركة منذ أن كانت مجموعة نخبوية مثقفة إلى أنْ اشتدّ عودها في الثمانينيات، وامتدت لكلِّ أجزاء السودان، وعلى مختلفِ الفئات الاجتماعية.
كان الترابي حصيفاً وواعياً بحجمِ حركته وقدراتها، فلم يتصارع مع القوى التقليدية في الحزبية الثانية (1965-1969)، بل آثر أن يقضي على الحزب الشيوعي الذي كان في مرحلة تطوّر وانتشار وسط المتعلمين والمثقفين ومختلف الفئات الأخرى، وهي منطقة تنافس وتسعى جبهة الميثاق الإسلامي على اجتذاب مكوّناتها. نجح الترابي، بالتحالف مع القوى التقليدية الأخرى، بإقصاءِ الشيوعيين عن الحياة السياسية وتقييد نشاطهم، في إحدى أكبر المذابح التي ارتُكبت بحقِ مبادئ الديمقراطية، عندما حُلَّ الحزب الشيوعي في نوفمبر/ تشرين الثاني 1965، وطرد نوابه من البرلمان.
لا يمكن النظر لمشروع الحركة الإسلامية بالسودان دون أن تكون شخصية الدكتور حسن الترابي شخصية مركزية فيه
واصل الترابي الاستفادة من الظروف السياسية، فوقّع على المصالحة الوطنية عام 1979 مع نظام نميري (1969-1985)، وعمل تحت مظلّة الاتحاد الاشتراكي التابع للنظام. في ذات الوقت كان التوجيه لعناصر الحركة بالتمدّد والتوّسع في النشاط الاقتصادي والإعلامي، نظراً لما قد يقدّمانه للحركة وبرنامجها السياسي في المستقبل. بالفعل، استفادت الحركة من المصالحة الوطنية، ونجحت في خلقِ قاعدة شعبية لها، مكنتها من الحصول على أكثر من 50 مقعدا في الهيئة التشريعية (1986-1989) التي أعقبت انتفاضة مارس/ إبريل 1985. للمفارقة، خسر حسن الترابي الدائرة التي ترّشح بها، بعد أن تكتلت القوى السياسية كلّها ضده، واتفقت على مرشح آخر هو حسن شبو. ويفسر البعض أنّ تلك الخطوة هي التي دفعت الترابي للتخطيط للانقلاب، رغم أنّ آخرين يرون أنّه كان يضع الانقلاب هدفاً أمامه منذ العام 1977.
لكن، وأيضًا، لا يمكن النظر لانقلاب الجبهة الإسلامية بمعزل عن تنامي نفوذ البعثيين داخل القوات المسلحة، والذين كانت لديهم مخطّطات للاستيلاء على السلطة منذ مطلع الثمانينيات. كما أنّ التسوية السياسية مع قائد التمرّد الدكتور، جون قرنق، عبر "اتفاق الميرغني -قرنق"، كان من شأنه أن ينهي المشروعية السياسية لوجود تنظيم مثل الحركة الإسلامية في الساحة تماماً.
وضع الترابي الخطوط العريضة لهذا الانقلاب، والمُوجّهات العامة للتمويه، وكيف سيتعامل المجلس العسكري مع المجتمع الإقليمي والدولي. وعند وقوع الانقلاب في 30 يونيو/حزيران 1989، ذهب بنفسه إلى السجن حبيساً كتمويه بأنّ الحركة الإسلامية ليست جزءاً من الانقلاب، وأتى بضابط كان في الإيقاف بعد مشاركته في محاولة انقلابية قام بها سدنة نظام نميري، قبل أسابيع من انقلاب الجبهة الإسلامية، وكانت تلك الشخصية هي الفريق الزبير محمد صالح.
نجح الترابي، بالتحالف مع القوى التقليدية الأخرى، بإقصاء الشيوعيين عن الحياة السياسية وتقييد نشاطهم، في إحدى أكبر المذابح التي ارتكبت بحق مبادئ الديمقراطية
كانت خطوات الترابي كفيلة بخداع النظام المصري، الذي كان وما زال (باستثناء فترة الانقلاب)، يعلم ما يدور في السودان بالتفصيل. بلغ التضليل مبلغاً دفع السفير المصري بالخرطوم، تقي الدين الشربيني، لتسويق النظام الجديد في السودان أمام دول الخليج والمنطقة. ولا يمكن إغفال دور الترابي في مساندة مقاتلي جبهة التقراي في الحبشة لإبعاد نظام منقستو الشيوعي الداعم لتمرّد قرنق عبر توفير القواعد والسلاح، لكن هذا أمرا لا ينبغي النظر إليه بمعزل عن الظروف الداخلية التي جعلت دور السودان مكمّلاً.
أراد الترابي أن يحافظ على مشروعية وجود تنظيمه في الحياة السياسية، ونجح عبر سياسة التمكين، وإدخال المعارضين للسجون وبيوت الأشباح. ولمّا استتب الأمر، خصوصاً بعد فشل انقلاب حركة الخلاص الوطني، وحركة الضباط الأحرار، وبعد فشل التجمّع الديمقراطي وعملية "أنا السودان" في انتزاع السلطة بالانقلاب، لم ير الترابي مانعاً بعدها من عودة الحياة السياسية، وأنشطة الأحزاب، بل بات من الضروري حسب رأيه أن تكون هنالك عملية انتخابية، وحياة سياسية بها تعدّد حزبي.
هنا تدخل العسكريون الذين أتى بهم الترابي إلى السلطة لتنفيذ مشروعه، وقالوا له: "حسبك، نحن لم ننفذ الانقلاب ليأتي آخرون للسلطة". و انتهى الأمر بالترابي أن أصبح معارضاً بعد أن أبعده تلاميذه، ومن أتى بهم، فيما عرف بالمفاصلة التي وقعت أحداثها في ديسمبر/ كانون الأوّل 1999. تحوّل الترابي بين عشيةٍ وضحاها من مفكرٍ وعرّاب لنظامٍ ومشروعٍ ظلّ يخطط لهما على مدار عقود، إلى مصدرِ خطرٍ ومهدّد، وتحوّل إلى سجين سياسي حقيقي لا كما كان متفقاً عليه بداية الانقلاب. كان هذا ثمن الاستعانة بالعسكر، وهو ما أبدى الترابي ندمه عليه عندما سُئِل في برنامج تلفزيوني: لماذا لم تفكر في استعادة السلطة عبر انقلاب عسكري؟ فردّ ردّاً مفاده هل أستعين بالعسكر مرّة أخرى بعد كلّ الذي جرى لي.
الإسهاب في تجربة الترابي ليس حبّاً له، أو ولهاً به؛ لكنها تجربة لرجل سياسة (شئنا أم أبينا)، كان لديه مشروع سياسي يخطّط له، ويحسب كلّ صغيرة وكبيرة فيه، ويستصحب معه الأبعاد الداخلية والخارجية لتحرّكاته وتبعاتها. وكلُّ هذا لم يشفع للترابي أمام بنيه، فوجد نفسه خارج اللعبة التي وضع شروطها وهندسها. والقوى السياسية بشكلها الحالي تفتقر لرؤية مشتركة، ناهيك أن يكون لديها مشروع سياسي خاص بها، ومع ذلك ترى أنّ "الدعم السريع" باعتباره يحارب الإسلاميين يمثل خياراً مقبولاً لديها، بل وتظن أنّ الدعم السريع، وبعد أن يقضي على الإسلاميين في الجيش كما تروّج دعايتهم الحربية، سيلتزم بتسليم السلطة للمدنين، ويخرج من الحياة السياسية ويسلّم شركاته وممتلكاته للسلطة المدنية ويخضع لإمرتها. يا للطيبة!