اللحظات الأخيرة على مركب الموت
المركب يتحرّك بقوة، يمنةً ويسرة، والبحر الواسع لا يظهر أقصى مداه، والعين منهكة من اللون الواحد الذي لم يتغيّر منذ أيام. آفاق ممتدة، نودّ لو دنت نهايتها، هل جربت أن تبحر في "الما لا نهاية" من قبل؟ كانت تلك الرحلة إلى ذلك الثقب الزمني، حيث في الليل ينظر الجميع إلى الأمام، منتظراً تجلّي اليابسة، وفي النهار ينظر الجميع إلى الأمام منتظراً تجلّي اليابسة. لا تتوقعْ أن أخبرك بتغيّر الوضع، أو وجود نشاطين مختلفين، هو الانتظار القاتل لا غير، ورقبة تصرخ من الانتباه المفرط، والترقب الحاد.
آمال، وأحلام، وأماني، وذكريات، وأصدقاء، وعائلة، ووطن، كلّها أشياء تتصارع معاً في اللحظة الأولى لحشر جسمك بالقارب، وليس معك إلا إثبات هويتك، الذي حين تصل، ستتركه للأسماك، كأنّها مفرمةٌ للأوراق، تريد أن تضع فيها كلّ ما يخصّ ماضيك المقرف، أن تقطع صلتك بكلّ شيء فات، حتى تذهب وتلبس حلّة جديدة، بهوية جديدة وإنسان جديد، ثمّ بعدها، قد تتصل بماضيك عبر الهاتف، باكياً من الشوق إلى الذين تركتهم هناك، لكنها الحياة في وطننا، وبلادنا من العالم العاشر، التي لا تعاني الفقر ولا التخلف، بل تعاني من السرقة، فيها الغنى وفيها العلم وفيها الموارد، وفيها اللصوص بدرجة أكبر.
القارب يهتز بقوة، والليل وحشٌ أخطر من البحر نفسه، أنت لست في ظلمات داخل ظلمات، وإنما هما وحشان يتصارعان، قوّتان كونيتان، مخلوقان خارقان، يتنازعان على من يُرعب الآمنين أكثر، من يزيد المخاطرة لهيباً وحركة؟ البحر يلعب بنا، والليل يأكل أفئدتنا، والمجهول يتسلّى على صراخ 100 طفل في مقدمة المركب، ومثلهم من النساء. أيّة حياة أفضل تلك التي يبحث عنها الأطفال؟ وأيّة مغامرة تلك التي تخوضها نساء لا يأمنّ النوم في أسرّتهن بمفردهن إذا كان نور البيت مطفأً؟
في لحظة ما، ستفكّر بأشياء عجيبة، مثل قطعة الجبن القديم التي تركتها في آخر إفطار، طبق البيض المقلي الذي تعدّه لك أمك كلّ مساء على العشاء، آخر لعبة "طاولة" أو "دومينو" ربحت فيها وغلبت صاحبك الذي طالما هزمك، الحضن الأخير، الذي كان بعمق، وعلى عجالة معاً، مع صاحب عمرك، مع أمك التي تماسكت وأنت تقبّل يدها، مع والدك حيث حبست دموعك في آخر لحظة، مع أخواتك وإخوتك عندما ألقيت نكتة تلطف الجو... لكن في عناق صديقك، انهارت كلّ قواك، لأنه، وأنت فقط، تعرفان نسبة الاحتمال الآخر من المسألة، وأنّ الموت أقرب من النجاة.
في عناق صديقك، انهارت كلّ قواك، لأنه، وأنت فقط، تعرفان نسبة الاحتمال الآخر من المسألة، وأنّ الموت أقرب من النجاة
الجميع يصرخ، الرجال الذين يتصدّون لقلق النساء ورعب الأطفال، تركوا أفعال الفرسان في المعارك، وأدركوا أنّه لا أحد يخوض حرباً مع البحر، على متن قارب صدئ طوله 25 متراً، محمّلاً بـ750 شخصاً دفعة واحدة، ثلثهم من النساء والأطفال، مع موتور يزهد فيه بائعو الخردة، فجلسوا هم أيضاً يعيشون الفاجعة بكلّ ما يملكون من ذكريات في صدورهم، لأنك حين تفقد الأمل، ستريد من اليأس خدمة القضاء عليك بسرعة شديدة، أن يقتلك البحر بعد دقائق، دون أن يمنحك قوة على السباحة، ستميتك مرهقاً أكثر.
كان القارب الحزين المنطلق من مصر، الذي أخذ حمولته البشرية من ليبيا، متوجهاً نحو إيطاليا، غارقاً قرابة اليونان، يعلم أهله أنهم قد لا يصلون إلى الضفة المقابلة، بنسبة مضمونة أو مطمئنة، لكنه كان بمثابة القشة التي تعلّقوا بها من الغرق في الوطن، لأنّ الغرق في الماء بالنسبة إليهم، في أسوأ الأحوال، ليس أسوأ من الغرق في رمال البلد، وفي عيون الذين تحبّهم، وفي نظرات الذين ترعاهم، وأنت تراهم يبكون ليالي طويلة لأنهم لا يجدون الطعام، ولا المستقبل؛ حيث كان الغرق الحاضر، الموت السريع، المغامرة ذات الأوجه المتعدّدة، أهون عليهم من مغامرة العيش لسنوات إضافية في مكانٍ مثل مصر أو ليبيا أو سورية أو أفغانستان، لأنها أوطان تقضم قلوب أبنائها، مقابل الحبّ والطعام!
ها هم يسقطون الآن، 15 دقيقة كانت مدة كافية لتختفي السفينة بالكامل تحت المياه، 750 حياة أحيلت إلى الموت، نجا بعض الذين سيكتشفون أنهم لم ينجوا بأيّة حال، ومات الصغار في أحضان أمهاتهم، واختلطت دموع الرجال وهم يقاومون بمياه البحر المالحة، واحتار الكون أيّ ملوحةٍ بينهما أكبر، وامتلأ قاع المتوسط بالآمال المتوفاة، والأحلام الميّتة، والقلوب البريئة، والعيون التي كانت تتطلّع نحو غدٍ أفضل، يخلو من لصوص الوطن، على الأقل، لن يكون هناك لصوصٌ في الآخرة، إلا في قيعان النار.