المجتمع العربي وتجليّات الفوضوية
عزيز أشيبان
تنتظرُ في الطابورِ من أجلِ الحصول على وثيقة إدارية أو الاستفادة من خدمةٍ معينة، فإذا بأحدهم يأتي من الخلف ويتجاوز الجميع بكلِّ وقاحةٍ، متجاهلًا من سبقه في خرقٍ صارخٍ لحقوقِ الآخرين وأدبيات الاحترام، وحتى في وجود العدّاد الالكتروني يبحث نفس الشخص وأمثاله عن طريقة معيّنة للتلاعب والفوز بالأسبقية في قضاء مآربه.
أيضًا، ثمّة من يشغل مقعدك في القطار، أو في مرفقٍ عمومي آخر دون اكتراث بالنظام المتبع، مثلما هناك من لا يحترم المواعيد كما يحدث عند زيارة الطبيب، حيث تُجبر على انتظارِ ساعاتٍ طويلةٍ من أجل الظفر بالفحص في تجاهلٍ تام لالتزاماتك وأولوياتك. تذهب إلى المقهى بحثًا عن قسطٍ من الراحة في يومٍ مزدحم بالواجبات والضغوطات، فتُصاب بالإحباط عندما تجد نفسك ضحيةَ التلوّث السمعي، جرّاء الضوضاء التي يُحدثها بعض مستعملي الهواتف الذكية أو الصادرة عن من يتحدث بصوتٍ مرتفع، أو يستعمل لغةً بذيئة تسيء إلى المسامع وتخدش الحياء وتُوجع القلوب. نحن بصدد الحديث عن تجليات الفوضوية التي تفرض نفسها كنمطِ عيشٍ ترسّخ في المجتمع العربي وتوغّل في بنياته النفسية والذهنية، وأنتج أنساقه الخاصة، وميكانيزمات اشتغاله.
بدون شك، لا يتعلّق الأمر فقط بالقاعدة ولكن يتعداها إلى ما فوق، إذ تسير مصالح الناس وفق نزوات ورغبات من في مركز القرار الذي يفتقد الرؤية المستقبلية ويتفنّن في إصدارِ القرارات الآنية المزاجية دون دراسة أو استشارة أو الاحتكام إلى أدبيات صناعة القرار، بعيدًا كلّ البعد عن مراعاة مصلحة الوطن وتبصّر العواقب وضمانِ التناسق في سيرورةِ القرارات.
إذا كان المنطلق أو طريقة التفكير عليلاً، فلا غرابة أن تكون المخرجات مشوّهة
وبموازاةِ مع ما يقع في صلب الميدان السياسي، يعيش القطاع الاقتصادي نفس الفوضى في حضرة مؤسّسة الريع التي تحظى بالعناية الرسمية وطاغوت الاحتكار الذي يستأثر بكلِّ منابع الخيرات، ويُجهز على كلّ أملٍ في قيام اقتصاد وطني، ويظلّ النهج المتبع هو فرض مزيدٍ من الضرائب أو الرفع منها، ودكِّ كاهل المقاولات الصغرى ودفعها نحو حافةِ الاحتضار والاندثار فيما تُعفى مجمّعات الكبار، ولا يتجرّأ أحد على الاقتراب منهم. طبيعي إذن، أن يتسيّد القطاع غير النظامي المشهد، حيث يقتات السواد الأعظم من الناس لسدِّ رمق العيش. بإيجاز، أينما حللت وارتحلت لن تصادف إلّا تجليات الفوضوية والهشاشة، وبقوة، رغم الانطباع المزيّف الذي يرسله وجود البنايات العصرية والأبراج ومنتجات الحداثة الغربية وآخر إبداعات التكنولوجيا. كيف يمكن إذن مقاربة بعض عوامل ترسخ الفوضوية في المنطقة العربية؟
يهم العامل الأول فشل منظومة التربية والتعليم وإخفاقها في صناعة المواطن الفعلي المنتج، صاحب الفكر السليم والسلوك القويم والمنخرط فعليًا في بناء البلد ورفع تحديات التنمية والحداثة.
يقترن العامل الثاني بفكرة التمرّد التي تُوظّف خارج سياقها الطبيعي، وفي مالا يليق. إذ نعلم جيّدا أنّ التمرّد يجد ماهيته في رفض الشائع والمعتاد، ويضع صاحبه على برّ البحث عن الدرب الصحيح والخروج عن معرّة التقليد الأعمى والتبعية دون إعمال العقل أو محاولة نقد. لكن مع الأسف يّوظّف في غير محلّه، ويتحوّل إلى أذى يصيب الصالح العام والخاص على السواء، ويصيب الجميع بسهام الهدم وزرع العوائق أمام مبادرات البناء والإصلاح. ومما لا شك فيه، أنّه عندما لا ينبعث التمرّد من العقل، ولا يُقنّن بالتدبّر والتفكّر، وينجرف وراء النزوات ونداءات الأنا وتحرّكه عُقد النقص ومكبوتات اللاوعي، حينئذ لن ينتج إلا الأخطاء والزلّات والمآسي.
يظلّ مبدأ المساواة معطلًا مادام القانون لا يعلو على الجميع، ولا يجد إلى إمكانية تحققه سبيلًا
يتمحور العامل الثالث حول واقع الخبل الذي أصاب المفاهيم والتصوّرات في مقتل. قد لا نختلف حول الفوضى التي ألمت بمنظومة المفاهيم وشوّهت التصوّرات وأجهزت على الإدراك الجماعي، مما ترك المجال فسيحًا أمام سلطة اشتغال الأساطير والأوهام والاهتمام المبالغ فيه بالحكايات والأفكار البدائية الجامدة وحال دون صفاء الأذهان وتجدّد آليات التفكير وارتقائها. في وضع كهذا تصعب محاولة فهم الواقع، ويتم تلقائيًا النزوع نحو خيارِ الهروب عن مواجهةِ الحقيقة بالرجوع المستمر إلى الماضي عوضَ التحلّي بالشجاعة في مواجهة الحاضر والإقبال على المستقبل. إذا كان المنطلق (طريقة التفكير) عليلاً، فلا غرابة أن تكون المخرجات (السلوك) مشوّهة.
يتعلق العامل الرابع بواقع تراكم الخيبات وفشل التجارب الديمقراطية والتنموية، حتى استفردَ اليأس بالمواطن العربي وسكن خوالجه وألقى به في متاهات الشك وعدم الطمأنينة وضبابية الرؤية وفَقدَ الثقة في الحكامة القائمة. وبموازاةِ مع ذلك، يعيشُ المواطن حقبةً عصيبة تتسم بأفول القيم واستهداف فضائل الأخلاق وتهميش الفكر مقابل الزحف الجارف للإمبريالية المتوحشة التي لا تبقي ولا تذر وتأتي على كل ما يقف في طريق تقدّمها، حتى أفقدت الأشياء ماهيتها ووضعت كلّ شيء في بورصة المعاملات المادية الصرفة، واسترسلت في تفكيك الإنسان وتجريده من إنسانيته وكينونة وجوده.
أخيرًا وليس آخرًا، يظلُّ مبدأ المساواة معطلًا مادام القانون لا يعلو على الجميع، ولا يجد إلى إمكانية تحقّقه سبيلًا في ظلِّ وجود من لا تطاله العدالة بشيء.