المدينة الفاضلة: بين صحن اللبن وكنبة الأخبار
يوميات مغتربة خلال الحرب
- هل أدعوك لعشاءٍ في مطعمٍ لطيفٍ اليوم بعد العمل؟
أبتسم وأجيب: نعم، سأحبّ ذلك كثيرًا.
يودّعني محمد بابتسامة، ثمّ يُغلق الباب الأماميّ خلفه، وأجلس أنا إلى زاويتي التي احتللتها منذ أن اشترينا هذه الكنبة وانتقلنا إلى هذا البيت. أُثبّت الأريكة الخضراء وراء ظهري، وأخرى زهريّةً أضعها تحت حاسوبي. ومن موقعي الاستراتيجي المواجه لشاشة التلفاز، أتنقل بين قنوات الأخبار في حركةٍ روتينيّةٍ، حيث المزيد من المشاهد المباشرة التي لا يحدث فيها شيءٌ جديد. تتكرّر المشاهد، ويتبدّل المحلّلون السياسيون والعسكريون الذين يعيدون تدوير الكلام نفسه الذي قالوه البارحة وقبل البارحة. تعلو أصواتهم وتخفت بانسجامٍ كأنغامٍ موسيقيّة، ولا يُقاطِع انسجامهم سوى مراسلون يصفون ما تنقله الكاميرا مرّةً ومرّتين وثلاث، يشرحون الحدث عينه بمرادفاتٍ مختلفةٍ تحمل المعنى نفسه. تتلاشى أصواتهم رويدًا رويدًا وهي تتحوّل إلى ضجيجٍ خافت، وأسرح أنا في ما بين يدي من عملٍ لا يكاد يبعدني عن قنواتِ الأخبار حتى يعيدني إليها.
أعيش حياةً عاديّة، أعمل فيها على حاسوبي العاديّ في زاوية الكنبة العاديّة. تحملني قدماي إلى مطبخنا العاديّ، لأعدّ صحنًا عاديًّا من اللبن والفواكه والعسل والقرفة الناعمة، ثمّ أعود للتمركز في زاويتي. أردّ على رسائل البريد الإلكترونيّ، أعدّل جلستي، أعمل قليلًا. أتمشّى وأشرب الماء، أغيّر مكان جلوسي، أترك الكنبة ثمّ أعود إليها، أعمل أكثر.
ثمّ فجأةً، ودون سابق إنذار، يرمي بي إشعارٌ من هاتفي إلى حياةٍ موازية أُخرى غير عادية، تتعالى فيها أصوات المذيعين على القنوات الإخباريّة المتلفزة، وتنشط فيها مجموعات الأخبار الكثيرة بلا هوادة. تتلاشى التحليلات المتناغمة لتحلّ مكانها أصواتٌ وصورٌ وصراخٌ متداخل، هنا حياة الأخبار والهموم والهواجس، هنا واقع المعايير المزدوجة والقتل والدمار، هنا أرى ضربات العدوّ في أماكن أعرفها، أسمع ضجيج طائرات الاستطلاع في ضيعتنا، وأزيز المسيّرات وأصوات القصف تصدح من هاتفي. أكاد أشمّ رائحة النيران تلتهم الشجر، ويوشك الغبار المتناثر من قصف طائرة الـ "إف 16" على منزلٍ في طريق القلعة في ضيعتنا أن يدخل عيني. في هذه الحياة، أرى قصفًا في ضيعتي الصغيرة الجميلة اللطيفة الهادئة، قصفًا في المدينة الفاضلة، كما وصفتها عمّتي.
يُربكني الهاتف، تقلقني الإشعارات المتتالية، وتلاحقني المدينة الفاضلة. أجدها معي أينما ذهبت. أحيانًا، أسبقها بخطواتٍ قليلة، وتسبقني هي في أحايين أُخرى. تُلاحقني أسراب الطيور المهاجرة في سمائها، وتُرافقني رائحة العشب النديّ في صباحاتها. تلازمني ضيعتي في وضح النهار، تراقبني وأنا أعمل، وتحاكي تحرّكاتي عندما أدخل المطبخ لأعدّ الطعام.
يلاحقني منزلنا، كلّ يومٍ يلاحقني. عندما أدخل غرفة النوم ليلًا، أجده وقد سبقني إلى حافّة السرير. ينتظرني حتى أغفو، فأجاهد النوم ساعةً وساعتين، أراقب السقف الأبيض حتى يتسلّل النوم إلى عيني، وفي اللحظة التي يغمض فيها جفني، يقفز منزلنا بخفّة اللصّ المحترف إلى رأسي، كالقرين لا ينام أبدًا ولا يرتاح. كالظلّ، يمشي معي في النهار، ويمتزج بي عندما تغيب الشمس فتأخذ معها الظلال. هو معي، دائمًا، في عقلي وقلبي والتلفاز الجديد المعلّق على الحائط؛ في أقلام التلوين أجده، في دفتر الرسم وزاوية الكنبة وطاولة الطعام ووجوه الناس، في ورود الجارة والخبز الطازج ومنظر الطيور من نافذة غرفة النوم.
أمشي سريعًا بين زاوية الكنبة وطاولة الطعام. أمشي ذهابًا وإيابًا. أدخل المطبخ وأخرج من المطبخ والهاتف في يدي، أتصفّح الأخبار وأراقب المجموعات. أظلّ هكذا، أتمشّى بين غرفتين، أتأرجح بين عالمين، بين بلدين، بين حياتين. أصلّي الظهر وأدعو. أعود إلى كنبتي، أعمل في الزاوية، آكل اللبن مع الفواكه والقِرفة، أشاهد التلفاز. أقفل التلفاز لأنّه لا جديد هناك، ثمّ أعيد تشغيله مرّةً أُخرى لعلّه يأتي بجديد. أكلّم صديقتي. أهاتف والدي، لكنّ هاتفه مقفل. أصلّي العصر وأدعو، ثمّ أكوي فستاني المخطّط بالأسود والأبيض، وألبس حذائي الأسود اللامع.
يعود محمد إلى المنزل آخر النهار، يبتسم، يأخذ بيدي، ونخرج لنمارس طقوس حياتنا العادية: نتمشّى، نتحدّث، ثمّ نعرّج على مطعمٍ عاديّ لطيف.