المراجعة الحاسمة
تتعدّى المساواة قيمتَها كونها فعلاً ممكناً ومطلوباً تحقيقُه وصولًا إلى مرتبة الحلم، والحالمون والحالمات بالمساواة المنشودة يعبّرون عن احتياجهم بطرقٍ مختلفة مثل الاعتراض والشكوى والسعي لتشكيل رأيٍ عامٍ وصولًا إلى عصيانٍ جماعيٍّ أو فرديّ، المهمّ أنّ المحاولات الساعية لتحقيق هذا الحلم لم تهدأ يومًا وتلبس لبوسًا مختلفًا حسب المقاربة الحالية المطروحة وحسب الزمان والمكان والتي تحدّد كلّها حجم ومتانة القدرة على المطالبة بالمساواة أو السعي لتحقيقها.
في مؤسّسة الزواج، تتجلّى بوضوح أركان المساواة من عدمها، والمساواة هنا تُبنى بصورة مسبقة أثناء العلاقة العاطفية أو أثناء فترة الخطوبة الرسمية وتُتوَّج أثناء التحضيرات للزواج وتأسيس منزل الزوجية. وتتضاعف تفاصيلها بعد الزواج وتتصاعد الفروقات وربما مظاهر أو أركان تحقّق المساواة مع استمرار العيش المشترك وزيادة عدد أفراد العائلة عند ولادة الأطفال.
لينا مهندسة عمارة، تعرّفت على شابٍّ بطريقة عائلية، وحُدّد موعد الخطوبة وعقد القران، طلبت لينا مهرًا مرتفعًا يليق بنسبها العائليّ وبشهادتها الجامعية وبصفاتها الشكلية ما يُدعى عرفًا بالجمال. وافق العريس على كلّ طلباتها لكنّه قال لها وبجدّيّةٍ مطلقة: "إذا حصل الطلاق ستخرجين بالملابس التي أتيتِ بها إلى هذا البيت، فكلّ شيء ملك لي وأنا من سدّدت ثمنها، مالًا وتعبًا وسنينًا من عمري!" يبدو الجواب جلفًا ومتعاليًا، لكنّ المرتبة التي وُضع العريس فيها، وهي مرتبة المنفق المفروض عليه تلبية الكثير من الطلبات الأساسية والشكلية، تسمح له بأن يكون السيّد المطلق (سي السيّد) كما هو متعارف عليه.
تعتبر الكثيرات وخاصّة من النسويّات أنّ المهر هو تمييز سلبيّ ضدّ الرجال كما يعتبرنه تسليعًا للنساء
تصرّ ميساء على أنّ المهر حقٌّ شرعيٌّ لا يجوز التفريط به ولا يتعارض مع المساواة، بينما تعتبر الكثيرات، وخاصّة من النسويّات، أنّ المهر هو تمييز سلبيّ ضدّ الرجال كما يعتبرنه تسليعًا للنساء! تبدو محاولة ربط المهر بالشرع جزءًا من تلك المساكنة المجحفة ما بين العرف والقانون والنصوص الدينية. والمساكنة هي سلسلة طويلة من تبرير الحيف والسعي لتثبيته، كما أنّ الكثيرات من النساء والكثيرين من الأهالي يتمسّكون بتلك المساكنة بذريعة الحفاظ على مستقبل المرأة وضمان حقوقها الشرعية والشخصية! وهنا يغدو سؤال الحقوق جالبًا لأسئلة وتداعيات تطول وتطول من دون أجوبة مقنعة، أو من دون تغييرات تُذكر على القوانين الناظمة للزواج، خاصّة أنّه لم يتغيّر شيءٌ في أحوال وحياة الزوجات المطلّقات أو المهجورات أو اللاتي يعشن تنازعًا عميقًا ما بين رغبتهنّ بالطلاق واضطرارهنّ للبقاء في بيوت الأزواج في علاقات سامّة أو قهرية أو مجحفة، والأهمّ أنّها خالية من المشاركة والمساواة والحبّ، فقط لأنّهنّ لا يملكن ثمن رغيف خبز ولا بيتًا يلجأن إليه.
يتماهى المهر مع سلوكيّات قهريّة مجتمعيّة في شكلها لكنّها تمييزيّة في جذرها، كأن تقول أمٌّ لابنها: "ابحث عن فتاة على قدر ما تملك من نقود!" (على قدّك) أو أن تتباهى أمّ فتاة بحجم المهر المدفوع لابنتها وكأنّه الدلالة القطعيّة الوحيدة على تميّز ابنتها وأحقّيّتها بالعريس اللقطة، والعريس اللقطة هنا أوّلًا بما يملك وباستعداده للدفع.
المراجعة الحاسمة للقيم والإجراءات والأعراف هي قضيّة بالغة الأهمّيّة، وهي قضيّة ليست معياريّة بقدر ما هي قضيّة حقوقيّة، تحاول التغيير أو السعي نحو المساواة بنقض وليس مجرّد نقد كلّ البنى والأعراف والقيم التي تمنع المساواة وتعيق إنفاذها بقوّة القانون أو بقوّة العدالة الإنسانيّة لا فرق، بل يمكن أن يتضافرا معًا من أجل واقع أكثر إنسانيّة وأكثر عدالة في علاقات تنشد المساواة ولا تعيق تبنّيها وإن بشكل فرديّ سعيًا نحو التعميم من أجل سلامة العيش ورفع جودة وقيمة العيش المشترك تحت سقف واحد، سقف مشترك من دون فواصل تمييزيّة.