النقاش حول الحرية في مساحة رمادية
من أكثر المفردات تداولاً على المنصّات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، مفردة الحريّة، إذ لا تهدأ النقاشات والتعليقات والمنشورات حول هذا المصطلح، بل تتباين الآراء وتصل إلى حدّ الصدامات والاشتباكات الرقمية.
يقول الكاتب والمؤلف الأميركي ستيفن كوفي :"نحن أحرار باختيار أعمالنا، لكننا لسنا كذلك بما يتعلّق بتداعيات أفعالنا".
وضمن هذا السياق، فإنّ "الحرية الشخصية" هي الفكرة أو المطلب الذي نولد ونحن نطالب به وندافع عنه. وفي ظلّ النقاشات العميقة عن الحريات، تتبادر إلى ذهني مجموعة من التساؤلات، منها: ما طبيعة الحرية التي يسعى لها الإنسان؟ وماذا يعني عندما نقول إنّ الفرد حرّ في أن يفعل هذا أو ذاك؟ وهل يمكن لأيّ إنسان أن يكون في وضع حرّ بشكل تام ويتصرّف فيه على هواه كيفما شاء؟
إذاً، لنبدأ بالحرية نفسها. هناك تعريف أولي للحرية، وهو أنها الخيارات المُتاحة للفرد في أفعاله، وقدرة هذا الفرد على تنفيذ خياراته أو الاختيار بينها. إصطلاحياً، المفهوم واضح، ولكن عند التطبيق، من الطبيعي والواقعي أن تكون الخيارات محدودة أحياناً، ونضيف إلى ذلك إمكانية تضارب خياراتنا مع أشخاص آخرين، فكيف نتعامل فيما بيننا؟
ربما، لهذا السبب وُجدت الأنظمة والقوانين، فمن المنطقي ولحسن تنظيم المجتمعات، لا بد من تأطير حرية الفرد على نحو يسمح للجميع بالتمتّع بالحرية الفردية بالقدر نفسه، الأمر الذي يستدعي تنظيم العلاقات بين الناس، إذ يستحيل عقلاً أن نتصوّر أنّ الأمور ستسير بين الناس دون وجود نظام من نوعٍ ما. وهذا النظام يقتضي الموازنة بين الحرية، التي تُشكّل القيمة الأساسية في حياة الإنسان وبين القيم الأخرى. ويحدث في كثير من الأحيان أن نضطر إلى التخلّي عن حرية خياراتنا مقابل القيم الأخرى أو نتيجة لظروف عملية أو ارتباطات مهنية أو التزاماً بقوانين وقواعد تفرضها الحكومات وغيرها. هذا ما يجعل ما بين الحرية والضوابط القانونية شعرة فاصلة.
ما بين حرية الفرد الشخصية وحرية الفرد ضمن خصوصية المجموعة، منطقة رمادية يطول النقاش الدائر فيها
هنا، نطرح مثالاً من الحياة العملية والمهنية، فهل تُفهم الضوابط المهنية في العمل مثلاً، التي تفرض علينا قواعد ملزمة وسلوكيات معينة على أنّها تتعارض مع حريتنا الشخصية وحرية خياراتنا؟
وعلى سبيل المثال أيضاً: في العديد من الدول تفرض المؤسسات على العسكري حلق اللحية، فهل يمكننا في هذه الحالة اعتبار المسألة تقييداً للحرية الشخصية أو انتهاكاً لحقوق الإنسان، أم هي ضابطة يجب على العسكري المُنخرط في هذه المؤسسات التزامها؟
أيضاً، نحن كصحافيين يجب علينا احترام مهنتنا أولاً، واحترام قواعد المؤسسات التي نعمل لها ثانياً، ولو فرضت علينا معايير معينة مرتبطة بالصورة والشكل العام على سبيل المثال لا الحصر، فهل تتنافى مع حريتنا؟
كذلك الأمر في ما يتعلّق بالأنظمة والقوانين، إذ لا يمكن التعاطي مع القانون المُلزم والمُقرّر على أنّه تهجّم على الحرية الشخصية، فهل منع تدخين السجائر أو الأركيلة مخالف للحرية؟ وإذا دخّن أحد المواطنين الأركيلة على الكورنيش وطُرد أو أُوقِف نتيجة مخالفة القانون، فهل يعتبر هذا الإجراء تعدّياً على الحريات؟
وفي الجانب الذي يرتبط بحريّة الإنسان في التعبير عن رأيه، هل يمكن التعاطي مع السباب والشتائم على أنها حريّات؟ أو التعرّض للإنسان بكلمة جارحة، هل يمكن اعتباره متناسقاً مع الحرية الشخصية؟!
أما في ما يتعلّق بالحريّة والقيمة المجتمعية، فلهذا الأمر بحث طويل، وهو موضع نقاش وتباين واختلاف، ودائماً نواجه معارك في عالمنا الواقعي والافتراضي (تحديداً على وسائل التواصل الاجتماعي) حول هذه النقطة. إذاً، يعتبر البعض أن الإنسان حرّ في ممارسة عاداته بشكل مطلق، ولو ضمن مجتمعٍ آخر، فيما يرى البعض الآخر أن ذلك تعدٍّ على القيم المجتمعية.
كثيرة هي الأسئلة إذاً، والموضوع جدلي وذو أبعاد فلسفية، وقد لا نجد لها خلاصات واضحة لنكون أمام معضلة تحتاج إلى عقل حكيم ومداراة ومرونة بما يخلق هذا التوازن بين قيم المجتمع وعاداته وبين حرية نعمل لأجلها ولا نساوم عليها.
ليست ضوابط المجتمع والثقافات المختلفة والمتوارثة تقييداً للحريات، بل أكثر من ذلك، إنها حرية شخصية أيضاً لمن أراد الاعتقاد بها، ولا بد من احترام خصوصيتها. ولكن من الجهة الأخرى، على هذه الخصوصية أن لا تنعكس على حرية الأفراد وخياراتهم أيضاً.
فما بين حرية الفرد الشخصية وحرية الفرد ضمن خصوصية المجموعة منطقة رمادية يطول النقاش الدائر فيها. إننا لا نتحدث عن تقييد للحرية أو عدم مراعاة للعادات والثقافات، بل نتحدث عن محاولة لتشكيل مفهوم يمتد بين الحرية الشخصية ومراعاة القيم المجتمعية.