الوجه المظلم للمعرفة
كشاب يعيش في إحدى مدن الدول المتقدّمة، هارباً من الحرب في بلدي، يهدّد موقع التواصل الاجتماعي، تويتر، سلامي في العيش. ليس "تويتر" فقط، بل أيضاً، مواقع أخرى تعمل على ذلك، بسبب وجود الكثير من الحملات التحريضية على المهاجرين والأجانب على هذه المنصة، وغيرها، ما يجعلني لا أنام بأمان، ليس لأنّ البلد الذي نحن فيه ينقصه الأمان، بل لأنّ حملات الكراهية قد تؤدي إلى حدوث مشكلات كبيرة.
تخلق هذه المواقع فرصة للمعتوهين للحديث والتأثير في الناس، وكان من المفترض على الكثير من هؤلاء أن يكونوا (لا استنقاصاً أو احتقاراً) في مراكز التأهيل النفسي. لكن: ما العمل، ما دام هؤلاء موجودين؟ وهم، لولا المواقع الاجتماعية، لكانوا منعزلين في منازلهم، ربما.
بعد حيازة إيلون ماسك على شركة تويتر، لم يتوقع الكثيرون أن تكون هناك سياسة جديدة للحدّ من خطاب الكراهية، متأملين أن تكون كما كانت سابقاً على الأقل. لكن ماسك فاجأنا بأنّ سياسة تويتر الجديدة ستنفتح على كلّ الخطابات، ولن يكون هناك أيّ تقييد للحريات.
تُكسبنا مثل هذه التصريحات الإيمان أكثر، بأنّ هناك انفصالاً حقيقياً بين القيم والمعرفة في عالم اليوم. فالعلم يتطوّر ليصنع حياة سهلة، وفي طريقه يصنع أداة قاتلة لتدمير قيم الإنسان، ولنزع الشعور بالمسؤولية الأخلاقية، التي فيما لو انتزعت من داخل روح الإنسان لما عوّضها أي شيء.
منذ كتب المفكر الاقتصادي، آدم سميث، عن فكرة تجزئة الصناعات إلى أجزاء صغيرة، بات تطوّر الصناعة مدهشاً. لكنها، في طريقها لهذا التطوّر، قضت على ما بقي من روح الإنسانية والقيم التي كانت تجمعها شمولية المعرفة وتوحّدها بالقيم.
منذ ذلك الوقت، تخضع الصناعة والتكنولوجيا والتطوّر لقيم رجل رأس المال، لأنه الذي يملك المال، وهو القادر على الإتيان برجال متخصّصين في جزئيات صغيرة، رجال وخبراء منفصلين عن بعضهم، لاستثمار جهودهم في إنتاج عملاق تكنولوجي خطير. من المسؤول عن هذا الخطر؟ لا أحد، إلا رجل رأس المال.
يتطوّر العلم ليصنع حياة سهلة، وفي طريقه يصنع أداة قاتلة لتدمير قيم الإنسان، ولنزع الشعور بالمسؤولية الأخلاقية، التي فيما لو اُنتزعت من داخل روح الإنسان، لما عوّضها أي شيء
مبرمج الخوارزميات في "تويتر" ليس مسؤولاً عن هذه الانتهاكات الأخلاقية، ولا مسؤول التسويق، ولا مخترع الشفرات أو مطوّرو البرامج. المسؤول هو صاحب رأس المال.
في منتصف القرن العشرين، عاصر مفكرون وعلماء مراحل مهمة من التطوّر التكنولوجي، وما رافق ذلك من وحشية إنسانية على مستوى صناعات الأسلحة الحربية، التي تجلّت في الحرب العالمية الثانية، حيث لا يمكن أن نتصوّر كيف قتل الإنسان الإنسان، وكيف ابتكر طرقاً كثيرة لتعذيبه واضطهاده، وكيف انتحر الكثيرون وهربوا وشُردوا من بلدانهم.
الروايات وكتب التاريخ تحمل صورة، ربما كاملة، عن تلك الفترة، بحيث إنّ قارئ هذه الأيام قد لا يصدّق أن هذا حدث قبل نحو ثمانين عاماً من الآن.
ابتكر الإنسان المعتقلات النازية الجماعية، أوجد الهولوكوست ومعسكر أوشفيتز، وقضى على كلّ حركات الفنون والآداب المبشرة بحياة أفضل.
بعد أن رأى الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو، ما يحدث داخل المعسكرات النازية، قال تصريحه الشهير: "بعد أوشفيتز لا يمكن كتابة القصيدة، والقصيدة بعد تلك الأحداث، عمل بربري".
وعندما رأى الروائي ألبير كامو، ما أحدثته قنبلة هيروشيما من دمار في اليابان قال: "كيف يمكن للمرء ألَّا يرفض العلم بعد هيروشيما".
قرأت لمرّات كثيرة عبارة الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسّو، أنّ السعادة أهم من المعرفة، وأدرك الآن مدى ما تعنيه هذه العبارة من أهمية.
يحق لي أن أرفض العلم إن كان يوفّر الوسائل المناسبة لتوسيع حفلات وحملات الكراهية، ويحق لي أن أتساءل عمّا إذا كان من الأفضل أن تفرض الدول تقييداً جزئياً على حرية استخدام هذه المواقع، ووضع قوانين وعقوبات تنظّم هذا الجنون.