الوحدة والنهضة.. أيّ دورٍ للشباب؟

04 سبتمبر 2024
+ الخط -

إنّ أوّل خطوة يجب أن يقوم بها الشباب للانطلاق في حياتهم والنجاح، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، هو الابتعاد عن الانتماءات والتحيّزات والأفكار الطائفيّة، لأنّ طبيعة هذه الانتماءات لا تسمح للشباب بالابتكار والإبداع، حيث كلّ ما يمكن أن يفكّر به الفرد داخل تلك الحركات لا يجب أن يتجاوز أفق الدائرة المحدودة التي سطّرها هذا الشيخ أو ذاك المرشد.. وكلّ تفكيرٍ خارج ذلك الصندوق، يُعدّ جريمةً يُعاقب عليها المرء، وقد يُطرد من تلك الدائرة لاختراقه حدود التفكير، ليأتي بعد ذلك الهجوم عليه بشتى أنواع الطعن والإهانات.

ومن أجل بناء مسار جديد في هذا العالم الصعب ينبغي، مبدئياً، تفكيك هذه الأفكار التي تفرّق بين المسلمين أكثر ممّا تجمع؛ كما أنّ نشر قيم التعايش والأخوة بين أفراد المجتمع أولى من التمسّك بهذه الأيديولوجيات الضيّقة.

التعايش وتقبّل الأفكار المخالفة هو فقط ما يجعلنا نلمّ شمل المسلمين والأوطان بعد الشتات الذي أودى بنا إلى هذا الهوان، والذي جعلنا أهون أمم الأرض على كلِّ خسيس ودنيء وسفّاك دماء.

فالإسلام الأوّل في بدايته ازدهر بسرعة، وذلك عندما كان المسلمون يضعون أفكار الوحدة فوق أيّ انتماءاتٍ قبليّة أو طائفيّة أو ثقافيّة أو عرقيّة، كما حدث في الحقبة المدنيّة عندما كان المسلمون يتعايشون مع بعضهم تحت رايةٍ واحدة.

التعايش وتقبّل الأفكار المخالفة هو فقط هو ما يجعلنا نلمّ شمل المسلمين والأوطان

وإذا تأمّلنا في النهضات التي قامت بها بعض الدول الحديثة، ومنها على سبيل المثال دولة رواندا التي قدّمت تجربةً ناجحةً بين الدول والمجتمعات، بعد أن تمكّنت من التغلّب على الانقسامات الداخليّة الطائفيّة أو المذهبيّة، فكانت النتيجة أن حقّقت نهضةً اقتصاديّةً واجتماعيّةً يتعايش فيها حوالي 5% من المسلمين مع المسيحيّة التي تشكّل الغالبية العظمى في تلك البلاد!

فالدروسُ التي تقدّمها رواندا في سجّل الحضارات الإنسانيّة كثيرة ومهمّة جداً في حركة النهضات المعاصرة التي شهدتها عدد من الدول، أوّلها أنّها تعافت من حربٍ أهليّة طاحنة كانت سبباً في كثير من الإبادات فيها، وأيضاً قدّمت درساً قوّياً في أهميّة المصالحة الوطنية والتعايش السلمي، بعد طول الصراع الأيديولوجي العنيف، وقد حققّت نمواً اقتصادياً واستقراراً عندما ركّز مجتمعها على الوحدة والتصالح بدلاً من الانقسامات.

ولعل إسهامات نيلسون مانديلا في نضاله المشرف الذي قدّمه في جنوب أفريقيا ضدّ نظام الفصل العنصري، كان دعوةً راقية لتبنّي أفكار التعايش والتصالح، وقد ألهمت رسالة مانديلا الملايين حول العالم، بما قدّمه من توجيهٍ فكري لتحقيق التفاهم وسط تعدّديةٍ مجتمعيّةٍ كانت تشهد تطاحناً فيما بينها، بعدما رسّخ أفكار السلام بين مختلف الثقافات في بلاده.

 ومن زاويةٍ أخرى، لا يُخفى على الناظر في علم النفس الاجتماعي أنّ الدوافع النفسيّة لدى الشباب هي التي تقودهم إلى الانتماء إلى جماعاتٍ أو فصائل ما، وهذه الدوافع قد تكون معقدة ومتعدّدة؛ ومتفاوتة بين تلك الأفراد حسب السياق الشخصي أو الاجتماعي أو الثقافي، كالحاجة مثلاً إلى الدعم النفسي، أو الشعور بالراحة والقوّة وسط تلك الجماعات، أو البحث عن المعنى والغاية، أو الحاجة إلى الاحتجاج والتمرّد نتيجةَ ما يعيشه كلّ فرد على حدة من ظروفٍ نفسيّة صعبة، ليجد الشاب فرصته للتمرّد، حيث تكون تلك الجماعات الدينية ملاذاً آمناً يتيح لهؤلاء الشباب التعامل مع مشاعرهم وصدماتهم النفسيّة بطريقةٍ مُنظّمة. 

يتشكّل الإسلام ويتغلغل في قلوب الناس من خلال سلوكيّات المسلمين وأخلاقهم وتوادهم وتراحمهم وانفتاحهم على بعضهم البعض

هذا إضافة الى الشعور باليقين الديني وفق رؤيّة معيّنة واضحة ومنظّمة تسوّق لها تلك الجماعات، ممّا يتيح للشباب الشعور باليقين في الوقت الذي يكون فيه العالم الخارجي مليئاً بالارتباك والتناقضات، ممّا يجعل الكثير من الشباب يعتقدون أنّ الإسلام لن يبقى، وسيضيع إذا لم تبق هذه الدوائر الضيّقة، وهذا خطأ كبير؛ فالإسلام باق على الدوام وما زال ينتشر ويتمدّد، وإلّا فما الذي جعله ينتشر في الغرب دون تأطير أو تنظيم، وفقط من خلال تأثير قام به مجموعة من الأفراد الصالحين والحاملين للقيم السمحاء على هذا الكوكب، فأصبحوا قدوات في تلك المجتمعات.

هنا يأتي السؤال الذي يطرح نفسه: أين كانت الجماعات والفرق الإسلامية في بداية نشأة الإسلام الأوّل؟

إنّ الإسلام الأوّل قام على أساس الرسالة العالمية بدون وجود جماعات إسلاميّة حينها، فبساطة العقيدة التي قدّمها الإسلام آنذاك، كانت قائمة على التوحيد والإيمان بالله الواحد، مع مجموعةٍ من التعاليم المتعلّقة بالعدالة والرحمة وحقوق الإنسان.. وهذه التعاليم كانت مُستساغة ومقبولة على نطاقٍ واسع بين الناس، وكان يشمل في خطابه جميع البشر دون تمييز على أساس معيّن، بعيداً عن الانتماءات القبليّة أو الإقليميّة.

فالإسلام في بدايته انتشر من خلال مجموعة من العوامل التي كانت تعتمد أساساً على القدوة الحسنة، والدعوة الفردية، والتفاعل مع المجتمع والانفتاح عليه، والتزام المسلمين بتعاليم الدين في حياتهم اليومية، فلم يكن هناك أيّ مظهر من مظاهر تنظيم الجماعات الإسلاميّة والطوائف المذهبيّة كما نرى اليوم، فالإسلام كان يتشكّل ويتغلغل في قلوب الناس من خلال سلوكيّات المسلمين وأخلاقهم وتوادهم وتراحمهم وانفتاحهم على بعضهم البعض؛ والتعايش السلمي لنشر الفضيلة والأمان على نطاقٍ أوسع.

وفي النهاية يمكن التساؤل عن الفائدة من دعوة شباب مسلمين موحدين لله في الأصل، إلى الانتماء للفصائل الإسلاميّة والجماعات؟! فالإنصاف والقسط هو إطلاق سراح عقولهم، وتشجيعهم على أن يكونوا قدوات حسنة في مجتمعاتهم، يحملون قيم الخير والعدالة والرحمة والتعاون، فهذا ما يعزّز قوّة الإسلام وتأثيره دون الحاجة الى الاتكالات الضيّقة والانقسامات. وهنا يأتي دور الشباب أنفسهم في تحرير العقول من القيود الفكرية، ومن التبعيّة العمياء للأيديولوجيات، والترويج للتفكير النقدي، من خلال طرح الأسئلة، ومناقشة الأفكار بشكلٍ مفتوح، والبحث عن الحقائق، وتعزيز أدوارهم القياديّة في مجتمعاتهم لبناءِ مستقبلٍ إسلامي، أكثر توحّداً وتسامحاً من أجل البشرية جمعاء.

ريهام أزضوض
ريهام أزضوض
كاتبة وباحثة في قضايا النهضة، خريجة من جامعة أسكودار في قسم الاعلام الجديد والاتصال في اسطنبول بتركيا، درَستْ القانون في جامعة محمد الأول في المغرب، تقنية وخبيرة في التجميل الطبي للعناية بالبشرة والشعر. تعرف نفسها، بالقول: "اصبر ثم اصبر حتى يتغنى الصبر بك".