بين ثقافة العار وثقافة الإقناع
من المعروف أنّ أيّ مجتمعٍ هو عبارة عن مجموعةٍ من الأفراد الذين يعيشون في منطقةٍ جغرافيّةٍ محدّدةٍ بحدودٍ معيّنة؛ ويتشاركُ هؤلاء الأفراد نظمًا ثقافيّةً واجتماعيّةً. وهذه المجموعة من الناس تتفاعلُ مع بعضها البعض بطرقٍ مسطّرة ومنظّمة، طبقًا لمجموعةٍ من القواعد والمعايير الثقافية المُشتركة التي تحدّد سلوكهم وعلاقاتهم، كما أنّ هذا المجتمع يشمل أيضًا، مؤسّسات ومنظّمات، تسهم في تحقيق النظام والاستقرار الاجتماعي عن طريق مجموعةٍ من القوانين التي تُشرّعها تلك المؤسّسات؛ سواء كانت هذه القوانين دستورية أو مدنية أو جنائية أو تجارية... ومن خلال كلّ هذه الديناميات يوفّر المجتمع البيئة الضرورية للنمو الشخصي للإنسان والتطوّر الاجتماعي.
كما أنّ أيّ مجتمعٍ، عند النظر إليه، نجد عنده موروثات متنوّعة؛ تتضمّن العادات، الثقافات، اللغات، التقاليد، والأفكار التي تتمثّل في السلوكيّات التي تنتقل عبر الأجيال، وهذه الموروثات تُشكّل الهُويّة الجماعيّة لذلك المجتمع، فتؤثّر على تفاعل الأفراد داخله أو مع ثقافاتٍ أخرى، فالموروثات الثقافيّة هي التي تمثّل أو تعكس تاريخ وتطوّرات كلّ مجتمعٍ عبر الزمن.
وعند محاولة فهمٍ لأيّ مجتمعٍ أو تفكيك ميكانيكيّته؛ يمكننا أن نشبّه المجتمع بالحقل، ففي هذا الحقل تنمو الأفكار التي يحملها ذلك المجتمع مثلما تنمو النباتات في الطبيعة. فإذا تصوّرنا أيّ حقلٍ، نجد فيه النباتات النافعة والضارة والنباتات الطبيّة والمسمومة أيضا. وأمّا النباتات النافعة، فقد تمثّل الأفكار الإيجابيّة التي تدعم النمو الصحي لذلك المجتمع، بينما الأفكار الضارة يمكن تشبيهها بالأعشاب الضارة التي قد تعيق هذا النمو أو تسبّب الضرر. وهذا التنوّع في الأفكار، قد يؤثّر على طبيعةِ التفاعلات الاجتماعيّة، ويمكن تحديده في كثيرٍ من الأحيان في الاتجاه الذي يتخذه المجتمع في تطوّره أو تراجعه وتخلّفه.
نشر الثقافة وتعزيز التفكير النقدي يُعدّان من الأدوات الرئيسيّة لتحسين وتطوير المجتمع
وهنا يأتي الدور الهام الواجب على نُخب المجتمع أو النشطاء في الحقل الثقافي والعلمي القيام به لتعزيز الأفكار الإيجابيّة والتقليل من تأثير الأفكار السلبيّة، تمامًا كما يعمل البستاني على رعاية حقله، لضمان أفضل النتائج المُمكنة للنباتات المزروعة. ولهذ،ا فإنّ نشر الثقافة وتعزيز التفكير النقدي يُعدّان من الأدوات الرئيسيّة لتحسين وتطوير المجتمع. فالتفكيرُ النقدي يلعب دورًا مهمًّا وحيويًا في تمكين الأفراد من تحليل المعلومات والأفكار بشكلٍ مُستقل، ممّا يساعدهم على تحدّي الافتراضات السائدة، والتي قد تكون سائدة منذ قرون ربّما، ولم يكتشف أحد أنّها ضارة بعد، نظرًا للتعوّد على وجودها بيننا. إذن، إنّ التفكير النقدي هو ما يمكّن أفراد المجتمع من فهم أعمق القضايا التي تواجههم، ومن خلال تعزيز عناصر هذا النقد يمكن للمجتمعات الابتكار والنمو بطرقٍ تعود بالنفع على جميع أفرادها.
فمنذ أن كنّا صغارًا ونحن نسمع كلمة عيب، حتى نكاد نقول إنّ هذه الكلمة قد غُرِسَتْ في ذواتنا، إذ ثمّة الكثير من الأمور التي نعيشها بشكلٍ يوميّ، ولا نفكّر فيها، أو في معرفةِ ماهيّتها. نحن هنا في هذا المقال بصدد الدخول لمناقشة إحدى "الثقافات" الرائجة جدًا في أوطاننا العربية والإسلامية، وهي ثقافة العار.
لقد نشأ المجتمع على شكلِ عائلات، ثمّ مجموعة من العائلات، فالعشائر، وبعد ذلك تكبر هذه العشائر لتصبحَ قبائل. وإنّ التفكير في صورة وشروط القبيلة التي هي العائلة الأولى تسبق كلّ شيءٍ، وفوق كلّ اعتبار. ومن أجل بقاء بنيات اجتماعية تقليدية قويّة مثل العشائر والقبائل، تمّ التأسيس لثقافة العار، والفكرة الأساسية وراء هذه الثقافة تتمحوّر حول الحفاظ على الشرف والسمعة الطيبة للعائلة والقبيلة التي تُعتبر عناصر قويّة في استقرار هذه المجتمعات. فثقافة العار، إذا أردنا أن نعرّفها، فيمكن أن نقول إنّها عبارة عن مجموعة من النُظم والقواعد الاجتماعية التي تسيّر المجتمع؛ وهي تُعطي الأولوية للجماعة وليس للفرد. فهي قد تحاصر الفرد في مجموعةٍ من الحريّات من أجل الجماعة أو القبيلة، وتضغط عليه للتصرّف وفقًا للمعايير والتوقّعات الاجتماعية لتجنّب العار.
أخطر شيء قد تُعلّمه ثقافة العار للمجتمع هو النفاق
ثم بعد ذلك، ينتج التحكّم في سلوكِ الأفراد، بما في ذلك اختيار الزوج أو اللباس أو التحكّم في القرارات الشخصيّة التي قد تؤدّي إلى الفشل الذريع الذي يُلاحق الفرد طيلة حياته إن خرج عن تقاليد القبيلة. ومثلا، ما زالت هناك الكثير من الفتيات المحرومات من دراستهن سنويًا، خاصة بعد الثانوي التأهيلي أو قبل حتى. وصحيح أنّه في الكثير من المناطق لا توجد جامعاتو وأغلب سكانها يعيشون تحت خط الفقر، إلا أنّ هناك الكثير من البنات اللاتي يفقدن دراستهن بسبب المعايير المُعتمدة في مجتمعهنّ، والذي يعتبر أنّه من العار أن تخرج الفتيات للدراسة في مدينةٍ بعيدةٍ عن بيوتهن، لأنّ المجتمع يرى أنّ الفتاة التي تبتعد عن أهلها للدراسة قد تختلط بالرجال، ثم تسوء سمعتها في مجتمعها الصغير، فلا يتزوّجها أحد في النهاية. وبناء على ذلك، فإنّ أغلب البنات قبل عشر أو عشرين سنة، حُرِمن من دراستهن تحسّبًا لهذه المعايير. والآن تغيّر العالم، فأصبحت المرأة المطلوبة أكثر للزواج هي المرأة الناجحة والمثقفة التي تملك استقلاليتها المادية نظرًا لتغيّر الظروف الاقتصادية حول العالم، وبعد أن أصبح التعاون بين الزوجين في المسائل الماديّة أمرًا ضروريًا.
التحفظ على نقد الأب
في بداية مجيئي إلى تركيا، بدأتُ الدراسة في قسم اللغة التركيّة، وكان يدرس معي شاب يمني صغير في السن، صاحب شخصيّة هادئة، ولا يحبّ الاختلاط والنقاش كثيرًا مع زملاء القسم. وغالبًا ما كنّا نجده يعزف على العود في ساحة الجامعة. ومرّة كنّا في مقهى خاص بالجامعة، وجاء يستفسر حول أمور كنّا سنُمتحن فيها، فسألته: من أيّ بلد أنت؟ ولمّا قال من اليمن، واسيته قليلًا على ما جرى في تلك البلاد من الحروب والقتل والتهجير. صمت قليلًا ثم نطق يقول: والله يا رهام أنا الذي يؤلمني في قلبي هو ما عانيته في حياتي بسبب أبي، وما يجري في وطني أقل أهميّة منه.
- أبوك؟
-نعم. سأقول لك أمرًا كنت دائمًا أكتمه عن كلّ الناس. لقد عانينا أنا وأخوتي من ظلم أبي؛ فهو رجل دبلوماسي غني، تزوّج امرأة أميركية وأنجب منها بنتًا، يُعاملها هي وأمّها بكلِّ رقي، ويعتني بهما ويصرف عليهما أموالًا لا تكاد تخطر في بالي ولا بالك. لقد تركنا أنا وأمي وأخوتي، ونادرًا ما يُرسل أموالًا، وإن أرسل فهي قليلة لا تكفينا مصاريفنا الأساسيّة. وها أنا طالب جامعي ويبلغ عمري عشرين سنة، ولا أستطيع دفع رسوم الجامعة ولم أجد عملا، ولا أعرف كيف أصرف على نفسي لولا أصدقائي الذين يدفعون الأجار، ويصرفون على البيت الذي نعيش فيه جميعا. ليس هذا فقط ما يؤلمني، ففي إحدى المرّات، كنت معه في المكتب وجاءت زوجته الأميركية ومعها ابنتها، وقبل قدومها هدّدني أنّه إذا أخبرتها أنّني ابنه أو أن لديه أطفالاً آخرين من أمّي، فإنّه سيفعل لي ويفعل.. وأنا حتى الآن لا أستطيع نسيان تلك الاهانات.
يمتنع الأبناء عن التحدّث عن ظلم آبائهم، لأنّه يُنظر إلى الآباء كرمزٍ للسلطة والحكمة؛ وانتقادهم أو الإشارة إلى أفعالهم الظالمة، يُعتبر تجاوزًا للتقاليد والقيم
من خلال هذه القصة، نجد أنّ الأبناء يمتنعون عن التحدّث عن ظلم آبائهم، لأنّه يُنظر إلى الآباء كرمزٍ للسلطة والحكمة؛ وانتقادهم أو الإشارة إلى أفعالهم الظالمة، يُعتبر تجاوزًا للتقاليد والقيم، لأنّ ثقافة العار السائدة تجعل الأبناء في مثل هذه المواقف يشعرون بالخوف والخجل من التعبير عن معاناتهم، حتى لو كانت تجربتهم مؤلمة؛ لأنّهم يخشون من الانتقادات الاجتماعية أو إفساد العلاقات الأسرية، ومثل هذا الوضع هو ما يؤدّي إلى استمرار الظلم دون نقاش أو مُساءلة؛ ممّا يعزّز الصمت والقبول السلبي ويجعل من الصعب على الأفراد إيجاد الحلول أو طلب الدعم.
وأخطر شيء قد تُعلّمه ثقافة العار للمجتمع هو النفاق. فكم من فتاةٍ محجبة خلعت الحجاب عندما اغتربت عن وطنها وأهلها بسبب تربيتها على الاتهام والشك، وعلى ثقافة العار، فلم تتعلّم أنّ الحجاب لله، وأنّ الله يسمع ويرى في كلّ بلادٍ نكون فيها؛ وكم من شاب يرتكب جميع أنواع جرائم الشرف وأفسد بنات الناس بشتى أنواع الإفساد؛ ولكنه ذبح أخته! فالخطأ في مجتمعاتنا، يُعتبر مقبولًا طالما لم يتم اكتشافه من قبل الآخرين، فالأفراد يتعلّمون إخفاء أفعالهم الحقيقيّة ومحاولة الظهور بصورةٍ مثالية أمام المجتمع، حتى لو كانت سلوكيّاتهم تتعارض مع هذه الصورة في الواقع. وهذا هو الخطر الذي تشكّله ثقافة العار على الأفراد والمجتمعات لأنّها تركز بشكل أساسي على كيفيّة إدراك الآخرين لأفعال الشخص بدلًا من تقييم هذه الأفعال على أساس القيم الأخلاقية والحقائق، وهذا ما يؤدّي إلى انفصامٍ بين السلوك العام والسلوك الخاص!
وفي نهاية المطاف، لا يسعنا إلا أن نقول إنّ ثقافة العار تضعف تطوّر الشخصية الفردية وتعزّز فكرة أنّ القيم الأخلاقية مُرتبطة فقط بالسمعة الاجتماعية، وليس بالسلوك الفعلي. فبدلًا من التركيز على السمعة والمظاهر الخارجية يمكن مواجهة هذه الثقافة الهدّامة ببناء مجتمع يشجع على الحوار المفتوح، والتعاطف، والقيم الأخلاقية الفردية، ويمكن ترسيخ هذه المبادئ في مجتمعاتنا عن طريق نشر ثقافة الإقناع، وهذا يعتمد على التعليم، والتوعية، والقدوة الجيّدة، ممّا يساعد على إرساء قيم الاحترام المتبادل والتفهّم العميق للأخطاء والإنجازات الإنسانية.