بحثاً عن قبلة الحياة
تسألك المنصّات ودور النشر، وبشكلٍ دائم، أن تحرّر نبذةً عن نفسك بوصفك كاتبًا. ما أصعبه من سؤالٍ لو علموا أنّ المرء لا يكتب إلا هربًا من نفسه، أو بحثًا عنها. بل، عجبًا كيف إذْ سألوا قـلمًا يُشكِّل أعْقَد الشخوصِ وأبسطها، قُبْحًا أو مدْحًا... كيفما رغب، يبسط النفوس، ويكشف السرائرَ والأسرار، ويرسم أقدارًا يخلقها، ولكأنّه ربٌّ. ماذا لو كذب؟
ولا أدري حقيقةً، هل يستفزّون بلاغتك ليستخرجوا من قدرتك على الإيجاز بيانًا (إنْ وُجِد)، يشفع لهم أن ينتشلوك من الغَمْرَة إلى مغامرةٍ أشبه بالمقامرة، وهم أحرص الناس على مالٍ يُهدرونه، أم ليُوهموك بقدرتهم الخارقة على مُحاكمةِ مخيّلةٍ جامحة من خلال فقرةٍ يتيمة لا تسمن ولا تغني من جوعٍ إلى الأدب.
هكذا أمضيتُ الأيام والشهور والسنين الطوال، وكثيرون مَنْ هم على شاكلتي، أتنقّل بين الأبواب والمواقع والصفحات، وأتنقّل من شارعٍ إلى جدار، ومن حالِمٍ إلى هائم، ومن جمرٍ يتحرّق إلى غُبار. أتنقّل، مرارًا وتكرارًا، حاملًا حروفي وقلمي سهامًا، ودروعًا، وأزهارًا، دونما راحة، ودونما تعب، كرسالة لم تصل أو تاهت عن الدار.
ما عاد الأمل يطيق أن يحملني، ولا الركض بأحلام مبتورة يلائمني
أُعِدُّ لحروبٍ لم تكتمل وأَعُدُّ هزائمي فلا أحتمل، أنّ اسمي الوحيد المنفرد في سجلّات الجلّادين وأغاني الضحايا، وأسماء العاشقين وظِلال المرايا، التي يحفظها الجميع، اسمي هذا لا يحفظه أحد! كجوادٍ خاسر حلّ رابعًا، أو ثالثًا، أو ثانيا... ولم ينَلْ من عَدْوِه إلا السوط والتعب. ثمّ إلى هناك عاد تاليًا، إلى الإسطبل الآمن بالأسلاك، والقوتِ الكامن مَــنِّ المُلاّك، إلى وطنِ العجز والعَطَب.
واليوم أحطّ الرحل ههنا، مُـنهَكًا مـثخنًا، ما عاد الأمل يطيق أن يحملني، ولا الركض بأحلام مبتورة يلائمني، لقد ألقيتُ كلّ خرائط الأطلال المهجورة والتيجان المسروقة والكنوز المطمورة، وكلّ لوائح الاتِّهام التي أعددتها في حقّ الكُتاب والشعراء الآثمين، ولصوص النصوص، وتجّار القضية.
اليوم والآن، أريد أن أنجو فقط. وعزائي، وقـد رأيتُ شُعلة النور تُداسُ تحت أقدام الضلال، أنّ هذا العالَم البائس ربّما لم يتنكّر لي فقط، بل هو لا يهتم أساسًا.