بشار الأسد... حصل خير
كأنه ابن ضالٌّ تشاكس قليلاً مع أصدقائه، صفع بعضهم، وضربه بعضهم، مُنع من دخول البيت تلك الليلة، ثم عاد في اليوم التالي كأنّ شيئاً لم يكن، بدلته مهندمة، وآثار العراك ممسوحة بعناية، أو كأنه عائد من فترة التجنيد الإجباريّ في الجيش، مدّة طويلة قضاها على الجبهة، ساعيَ شاي في غرفة القيادة، ثم رجع فاستقبلوه بالعناق والأحضان.
قالوا نريد أن نحلّ المسألة، ونكون بخير، ونعيد الأمور إلى سابق عهدها (والمصيبة أنّ 14 مليون إنسان شُرّدوا لأنهم لا يريدون للأمور أن تبقى كسابق عهدها) هكذا، كأنه زوجة غضبانة من زوجها، كأنها خناقة أسرية، خصوصاً مع الشعار اللزج الذي يخصّ "البيت" العربيّ، مناوشات بسيطة بين زوجين، هي أغضبته حين طالبته بالمصاريف ورعاية الأولاد وتقوى الله فيها وفي أبنائها، فرمى عليها الطلاق، طلقةً طلقةً، كلّ يوم طلقات بلا حصر، طلقات لا تنفد، فقالوا لا بأس، ما دامت كلها في جلسة واحدة، ولم تكن طلقات متفرقات، غير أنّه في وقت الغضب، فلا يقع، ولا بأس أنه طلاق بائن بينونة صغرى، وفيه إرجاع، حتى ولو بعد اثنتي عشرة سنة.
بهذه البساطة، بل أكثر، استُقبل الرجل الذي عاد فوجد وجوهاً غير الوجوه، وكراسيّ ممتلئة بآخرين، والمكان غير المكان، وإن أعادوا لك القمم القديمة، فمن يعيد لك الرفاق؟ ربط جراحه ومشاعره تجاه الذين كانوا ذات يومٍ هنا ورحلوا، وتبسّم في وجه الجميع، واحتوته الأحضان الحارّة، وكان كلُّ عناقٍ بمثابة اعتذار له: "آسف لم يكن بيدي.. وجدت الجميع يصوّت فصوتّ، وجدت الجميع يقاطع فقاطعت، لكنك تعلم ما في القلب، والله على ما أقول شهيد".
شهيد؟ ذكّرت هذه الكلمة طبيب العيون بتروما يعاني منها، كلمة مقزّزة تذكّره بمعوّقات إنجازاته في سورية طوال عقد وعامين، فمنح تلك الصفة لنصف مليون إنسان، حرمهم عائلاتهم، وبيوتهم، وحياتهم، لأنهم قالوا له: "لا، ليست حرباً أهلية، ولا أزمة وطنية، ولا صراعاً مسلحاً بين جيشين، وإنما هي ثورة لا تريدك، وانتفاضة تقاومك، وشعب يقول لك بمنتهى الغضب والوضوح: "ارحل، لم يعد لك مكان هنا"، وظنوك (يا لسذاجة ظنّهم) ستتشبّث قليلاً مثل أصحابك ثم ترحل، ولكنك كنت أكثرهم قبضاً على الجمر، فأرديت الجميع".
"ارحل"، قالوها بالهتاف، وقالوها بالغناء، لحّنوها لك يا بشار، لكنك لم تفهم إلا ما تريد فهمه، فكان مكانهم في ظلماتك المخيفة
ربع مليون معتقل، منهم من مات في داريا، وتدمر، وفي المخابرات الجوية، وفي المعسكرات المغلقة، والمقرّات السريّة، لأنهم قالوا لك ببساطة شديدة: "ارحل"، قالوها بالهتاف، وقالوها بالغناء، لحّنوها لك، لكنك لم تفهم إلا ما تريد فهمه، فكان مكانهم في ظلماتك المخيفة، كأيّ قاتل متسلسل يعيش في قصر حلو المنظر والواجهة، لكن لا بدّ أن فيه قبواً!
14 مليون سوريٍّ شُرّدوا، تركوا كلّ شيء خلفهم، حتى معتقليهم وجثث أمواتهم التي كانت ساخنة حينها ولم تجفّ دماؤها بعد، الأولاد الصغار تيّتموا، والآن كبروا، وانتقلوا من الخيام إلى مخيمات، ومن المخيمات إلى عرض البحر، ليموت بعضهم وينجح بعضهم في الوصول إلى الضفة الأخرى، حيث يقاومون من أجل استنشاق نفسٍ خالٍ منك، لا تشوبه ذكريات وجهك القذر.
"حصل خير".. بهذه السماحة والعفو الذي لا يعفوه الله عز وجل نفسه ما دام الإجرام في حق خلقه، قالوا لبشار "أهلًا"، لا أعرف كيف لم يروا الأحشاء في أنيابه، وهو على مقربة أمتار منهم؟ كيف لم يروا الدماء تغلي في عينيه؟ كيف لم يروا اللون القاني في يديه؟ كيف لم يلحظوا صرخات الضحايا تختلط بصوته؟ كيف لم يتقيأوا حين رأوه؟ كيف لم تمتلئ بهم حمامات مقرّ القمّة للاستفراغ لحظةَ وصوله؟ كيف نام تلك الليلة من رأوا بشار الأسد؟
لا بأس.. حصل خير.