"تبرعوا لحشو ضرس محمد!"
لا أستطيع الإنكار؛ كنت مذهولًا أن أرى أحدهم يحتاج إلى التبرّع ونداء المساعدة وطلبات الإغاثة، لا للسكن في بيتٍ آمن (وإن كان يحتاج إليه بالفعل)، وليس للبحث عن مدارس جيّدة في مستواها التعليمي، ولا من أجل رعاية صحية فائقة، بل يحتاج فقط إلى تكلفة لحشو ضرسه الذي يحرمه من النوم بالليل والهناء في النهار!
كانت هذه القصة ضمن عملي في كتابة القصص (سكريبت) مؤخرًا لمؤسسة إغاثية. فوجئت، وصعقت، ما هذا العالم الذي دخلته للتو؟ كنت أعرف عنه، وكنت أدرك أنّنا لسنا وحدنا في هذا الكون، لسنا فقراء ولسنا أغنياء، وهناك غيرنا الفقراء أجل، وهناك المعدمون أيضًا، لكن إلى هذه الدرجة؟ فذلك ما لم أكن أتخيّله أبدًا!
يعيش محمد البالغ من العمر أحد عشر عامًا في مخيمٍ على الحدود التركية السورية، ابتسامته حلوة جدًا، ليس من باب الشفقة ولا التعاطف المبتذل، ولكن لأنّني رأيت فيه الصغار الذين أحبّهم، خجول للغاية، كأنه مُحرَج أنه ضمن مَن حُكم عليهم بالبقاء في وضع كهذا، أنّ ذلك الطفل داخله الذي كان أحرى به أن يحقّق الكثير في مثل سنه من اللعب والدراسة، يجلس الآن بين يدي منظمة خيرية وقد صار "حالة إنسانية"، وأيّ شعور أقسى على الإنسان من أن يصير نموذجًا مرفقًا به طلب التبرّع؟!
تقول أمه إنه يخجل من اللعب مع أقرانه بين الخيام، منعزل تمامًا، يؤثر الوحدة أو يضطر إليها، ينزوي في ركنٍ من الخيمة، يحاول ابتلاع آلامه، منذ ذهب إلى الطبيب وطلب منهم إجراء أشعّة على فكه ليعلم حالة الضرس المتضرّر حتى يعالجه، فعادوا من هناك بخيبة أمل، لأنهم وإن استطاعوا تدبير الكشف هذه المرّة، فإنهم ويا للأسف لا يملكون ثمن إجراء الأشعة، منذ قرابة عام!
أيّ شعور أقسى على الإنسان من أن يصير نموذجًا مرفقًا به طلب التبرّع؟!
ينخر السوس في ضروس محمد، ولا أعلم هل وجد من يرعى حالته بخمسين دولارًا أم لم يجد بعد، لكنه ترك الكثير ينخر في قلبي منذ ذلك الحين، ترك أشياء لا أسامح نفسي ولا العالم عليها، شعورًا بالذنب لا أستطيع تجاوزه، عقدة لا يمكن حلّها ببساطة، وثأر لن ينتهي ولن يقبل المصالحة مع الحكام الذين يصل ظلمهم إلى أدقّ تفاصيل حياتنا، مثل ضرس محمد، وتأثّر شديد، بغض النظر عن مساعدتي نفسها له من عدمها، فالحديث هنا عن الحالة، لا عن التبرّع بذاته، لأنّ هناك الكثيرين من محمد في سورية، وعلى هذه الأرض بوجه عام.
قصة أخرى، لسيدة تمشي عشرات الكيلومترات بحثًا عن جردل مياه نظيف تعود به لأطفالها، وقصة ثالثة لرجل أربعيني يرعى أطفاله وحده، محاولًا البحث عن لقمة عيش بالمعنى الحرفيّ، لأنه لا يجد عملًا، وماذا يمكن للنازح أن يعمل في مخيم يعيش على ما يُلقى إليه من فتات المساعدات؟ وقصة رابعة لأمٍّ لا تجد لأبنائها ما يأكلونه فيستيقظون بلا إفطار كلّ صباح، وينامون بلا عشاء كلّ ليلة، ماذا تتوّقع من أطفال يعيشون في بيئة كهذه، ومن أمٍّ ترى أطفالها يموتون من الجوع ببطء يومًا بعد يوم؟
أين نعيش، وأين يعيشون، وأين نحن من ذلك العالم؟ وما التعويض المناسب لهم في الدنيا عن كلّ ما قاسوه؟ أكتب هذا ولا تفارقني صورة محمد ولا صوته، ولا حركاته الخجلة، ولا تعثّره المتكرّر في الكلام، ولا تشتّت انتباهه المتواصل، وتورّد خديه، بينما تدربه فرق المؤسسة الإغاثية على أن يعرّف الناس باسمه ومشكلته حتى يمدّوا له يد العون، فيقضي على ما تبقى من قدرة داخلي على التحمّل...
أبتلع ذلك كله جرعةً واحدة، محاولًا كتابة السكريبت المطلوب: "تبرعوا لمحمد حتى يستطيع النوم هذه الليلة".