تجارب النساء في شهر رمضان
قلّما يتساءل الناس عن التجارب التي تمرّ بها النساء في شهر رمضان، وعن تصوّراتهن والمشاعر التي تنتابهن خلال هذا الشهر... فهذا موضوعٌ مسكوت عنه. والانطباع السائد لدى المسلمين الملتزمين أو السلوكيين أنّ رمضان هو ''شهر العبادة" والتقرّب إلى الله عبر الصوم والصلوات وإطعام المساكين والإحسان إلى المحتاجين والحفاظ على الروابط الأسرية وغيرها. وما على النساء إلا الامتثال للتوّقعات الجندرية وأداء أدوارهنّ المتعدّدة من عمل واضطلاع بمختلفِ الأعباء المنزلية كرعاية الأبناء وتدريسهم وإكرام الضيوف وغيرها...
والمطلوب من النساء ضبط النفس والتحكّم في الميزانية ومواجهة الأزمة الاقتصادية وكتم الآهات والتحلّي بالصبر والتضحية من أجل إرضاء الجميع. كما المطلوب منهنّ أيضا إظهار السرور والحبور، والتبسّم في وجه الجميع وإبداء علامات السعادة، أي إحكام أداء الدور على الركح (المشهد/ المسرح) الاجتماعي حتى تكون الواحدة منهنّ ربّة بيت ممتازة، وزوجة صالحة، ومدبّرة، وحكيمة. وتدخل أغلب النساء هذا التصوّر من خلال التنشئة الاجتماعية التي تُثمّن الأدوار التي تنهض بها المرأة في البيت ولفائدة العائلة. ويترتب عن ذلك تنافس النساء في أداء هذه الأعباء حتى يَنتزعن الاعتراف المجتمعي، فلا يُوصمن اجتماعيًا بأنّهن متقاعسات وعاجزات ومقصّرات..
غير أنّ من النساء فئة كسرت حاجز الصمت لتسرد معاناتها وتصف مشاعرها وأحاسيسها. هنّ نساء مثقلات بأداء الواجبات. زمنهن رتيب ودائري، وينتابهن شعور بأنّهن "مسخرات للخدمة" من الصباح إلى الفجر، وتسيطر عليهن نزعة "التأثيم" لأنّهن لا يجدن الوقتَ الكافي للتفرّغ للعبادة والاعتكاف والتهجّد وأداء صلاة التراويح، بل والاستمتاع بالأناشيد والذكر أيضا... إذ يُجبرهن "أداء الواجب" و"البحث عن الثواب" على التضحية بكلّ شيء. فتذوب الذوات في الآخرين لتغدو "نسياً منسياً". المهمّ أن يرضى الجميع وينعموا بما لذّ وطاب ويستمتعوا بالفرجة والمجتمعيّة، وأن يردّدوا :"ما أحلى شهر رمضان وما أجمل جمع الشمل".
يتحوّل شهر رمضان عند بعض النساء إلى معاناة وينتابهن الشعور بالغبن والقهر، إذ المطلوب منهنّ الخدمة والخضوع والصمت وعدم التذمّر
ولئن قبلت هذه الفئة التكيّف مع ما يفرضه المجتمع على النساء في مثل هذا الشهر، فإنّ أصواتًا أخرى بدأت ترتفع لتعلن عن مواقفها. هنّ نساء وشابّات يكشفن عن تجاربهن ومشاعرهن المتنوّعة. ففي هذا الشهر، تتضاعف أعباء النساء، ويبدو الحيف الجندري واضحًا لا مريةَ فيه، ويشتدّ وعيهنّ بالتمييز واللاعدالة واللامساواة، بل الاستغلال. ويغدو المعيش النسائي أكثر تعقيدًا وعسرًا. فمن النسوة من تضطر إلى تحمّل عنف الزوج الذي لا يستطيع أن يضبط مشاعره وانفعالاته بـ"سبب الصوم عن السيجارة وكوب القهوة''، فتكون أجساد النساء مساحة للتعبير عن الغضب والتوّتر والقلق الذي ينتاب من أدمن على ''النيكوتين"، ولا عزاء للسيّدات.
يتحوّل شهر رمضان عند بعضهنّ إلى معاناة وينتابهن الشعور بالغبنِ والقهر، إذ المطلوب منهنّ الخدمة والخضوع والصمت وعدم التذمّر، ولذلك فإنّهن يتحدّثن عن الآثار النفسية التي يتحملنها بسبب الضغوط والإكراهات والتوّتر والقلق والخوف... وفي سياق مماثل، تتحدث أخريات عن مشاعر الإهانة والذلّ التي تنتابهن في فترة الحيض، إذ عليهن أن يأكلن ويشربن في "بيت الحمام''، حتى لا ترمقهن العيون بنظرات الاتهام والإدانة، وعليهن أن يُتقن أدوارهن حتى لا يُكتشف أمرهن... وتسرد أخريات تجاربهن وعاداتهن الجديدة. فكلّما رامت الواحدة الاستمتاع بالصلاة والصوم "بتمامه وكماله" أو الطواف في العمرة، شربت حبوب انقطاع الطمث واستراحت من عناء "التخفّي" و''الإقصاء''.
إنّنا إزاء تحوّلات في الخطاب واللغة والوعي وطرائق التفكير والتمثّل. فهذه الجماعة لا تتوانى عن سرد حكايات تندرج في إطار''الدين المعيش'' (Lived Religion)، وهي إذ تُخبر عن المشاعر والأحاسيس إنّما تريد أن تلفت الانتباه إلى المسكوت عنه. فثمّة أدوار توّزع بطريقة مجحفة تؤدي إلى تكريس علاقات القوّة والهيمنة وتفضي إلى تعزيز امتيازات الرجال على حساب النساء. فأين الإنصاف والعدل والمودّة... في شهر يفترض أن يكون شهر العبادة والالتزام بالمثل والقيم؟