تخبرنا الأغاني: جميعنا مرضى نفسيون!
هذا ما تخبرنا به الأغاني الجديدة، التي تركز على أن يعيش المستمع دور الضحية، تشعر بألم شديد تجاه الماضي، وذكريات حارقة، وتستدعي كلّ الأذى العادي وغير العادي، المقصود وغير المقصود الذي عشته في حياتك، حتى تتماشى مع كلمات الأغنية، لا تصف الكلمات وضعك، وإنما تستدعي من شبكة حياتك المعقدة والواسعة طوال عمرك "فيديو كليب"، يلائمها في الخلفية.
بالتأكيد، لا حكر لذوق في الموسيقى، ولا أحد يملك زاوية معينة يصرّ على أن يتحدث الناس منها، ولكن الاتجاه الحديث، والحداثيّ، في "تضخيم الذات" هو ما يجيّش قنابل موقوتة في المجتمع، قد لا يسمع صداها في المشهد الكبير، لكنها حاضرة لا بد، تنفجر داخل أماكن متفرقة كثيرة، واحدة تلو الأخرى، لأنّ الجميع يشعر بذاته، يستشعر الخطر المحدق به، فيفجر نفسه بمن يقف أمامه.
الجميع ضحايا صدمات نفسية، الجميع يعاني من تروما تلاحقه، عصرٌ كبير طافحٌ بالهشاشة النفسية، بالسجن في الماضي، بمازوخية جلد الذات وتعذيبها للبقاء في تلك الحالة، كمن يقرأ لك الكف أو الفنجان أو الأبراج، دجّالون، لا يعرفون تفاصيل حياتك بالتأكيد، كما لا يستطلعون الغيب، لكنهم بلا شك يتبعون حيلة تنطلي على الكثيرين، حين يخبرك أنك تعاني من أزمة عاطفية في الماضي، أو تنتظر شيئاً بشدّة، أو تعاني من ذكريات سيئة تلاحقك وتحاول الهروب منها، فيتورد خدّاك، وتجحظ عيناك، أوه! كيف عرفت؟! وصفت ما أعيشه بالفعل! تبّاً لك يا صديقي، ومن منّا لا تنطبق عليه تلك التوّقعات العامة نفسها؟!
الجميع ضحايا صدمات نفسية، الجميع يعاني من تروما تلاحقه.. هذا ما تظهره بعض الأغاني اليوم
هذا ما يفعله دجل الأغاني المقصودة، حين تنفخ فيك النفس الكامنة، تجعلك تتخيّل الجميع غدّارين، مع أنّ الجميع يتخيّل تجاهك الشيء نفسه، أنك غدار مثل الآخرين، حتى تتنامى لدى المجتمع صورة عامة بالحزن والاكتئاب والخوف والفردانية، ثم تلقائيّاً سيبحث الجميع عن راحته، باعتزال ما يؤذيه، بغض النظر عن تعريف "الأذى" نفسه، بعيداً عن سيولة معناه الحالي، فكلّ ما تتعرّض له عبارة عن أذى، الوظيفة التي ليست على مقاس أمنياتك أذى، والأهل الذين يفهمونك بصعوبة أذى، والتخصّص الثقيل عليك في الدراسة أذى، حتى تعيش الوهم بامتياز، أنك ضحية ذلك الكون، ليتك لم تُولد أصلاً، ولماذا الجميع حولي مؤذون؟ على غرار عنوان كتاب للمؤلف شريف عرفة "لماذا من حولك أغبياء؟"، الذي يخلص إلى أنّ الغبيّ الحقيقي هو من يظن مَن حوله كذلك.
فهنا تُرتكب جريمةٌ وسذاجة، السذاجة ممن يستمع إلى كلّ ما يدخل أذنه فيُسكنه في صدره ويستضيفه في مخه ويُدخله في تفاصيل وعيه وانطباعاته ونظرته وقناعاته عن الحياة، أما الجريمة فهي محاولة التماشي مع ما يريده الجمهور، لا ما يريد صاحب الأغنية طرحه من فكرة قد لا تتماشى مع الجميع، لكنها ستكون بمثابة محاولة إيقاظ جماعية، ستلقى صداها، لكن بعد أن تصدمهم بالحقائق المرّة، فيشبه المغني وشاعره في ذلك (ومنهم من نحبهم) الدجّال الذي يخبر ضحاياه بأنهم يعانون من كذا وكذا، ويغرقهم في بحرٍ من النكد والشعور بأنهم ضحايا، والحقيقة أنهم ليسوا ضحايا الحياة بقدر ما هم ضحايا الأغنية.
والحلّ هنا في أن يفعّل الإنسان حواسه في الانتقاء، ويُعمل عقله في التفكير النقدي، فلا يستقبل الوارد استقبال الوالد بالأحضان، وإنما يفحصه ويمحصه، ليعرف ما يحويه من رسائل، وما يضع من أحزمة ناسفة، حتى لا يقطع شرايينه أو يفجّر نفسه، بسبب فقاعة الوهم التي تمتلئ داخله، لأنه يحتاج إلى تلك الدراما.