تشكّلُ خطابات جديدة حول الأمومة
تنشأُ الفتياتُ على خطاباتٍ تُعلي من شأنِ الخصوبةِ والإنجاب والأمومة وأعمالِ الرعاية فتتشكلّ هُويّاتهن على هذا الأساس، ويُحاولن طيلة حياتهن الامتثال للتوقّعات الاجتماعية، ويسعين إلى أن يَكنّ مُتطابقات مع أنموذجِ "الأمّ المثالية". غير أنّ هذه الخطابات صارتْ اليوم، موضعَ تساؤلٍ وإعادة نظر، بل إنّ مفهومَ الأمومة باتَ مثيرًا للنقاش والبحث، وهو موضوع لا يستأثر باهتمامِ الدارسات المُنتميات إلى اختصاصاتٍ متنوّعة كعلمِ النفس وعلم الاجتماع والأنتربولوجيا والجندر و... فحسب، بل ثمّة نقاشات تُطرح على "واتساب" أو فيسبوك" ضمن المجموعات الخاصّة بالأمّهات، وهناك تجارب من الحياة اليومية تُروى ومخاوف تَكشف عنها أمّهات حديثات العهد بالأمومة.
وتتجاورُ مع هذه الخطاباتِ خطاباتٌ أخرى تصدمُ الجمهور المتعوّد على سرديّةِ الاحتفاء بالأمومة، إذ نلمسُ في خطاباتِ فئةٍ من النساء "تحرّراً" من قيودٍ فرضها عليهن أنموذج الأمومة المهيمنة، ومن المعايير الاجتماعية السائدة في الثقافة المهيمنة التي ترسّخ التنميطَ والأدوار التقليدية، ونتبيّن من خلال "حكي" النساء عن تجاربهن اليومية ورؤيتهن للأمومة رفضًا لمبدأ التأقلم والتكيّف مع متطلباتِ الأمومة المعيارية، وإصرارًا على تجاوزِ خطابِ التأثيم والتقريع والوصمِ وحرصًا على القطعِ مع تأنيبِ الضمير والإحساسِ بعدم الرضا والشعور بالتقصير في حقّ الرضّع والأولاد والزوج والأهل...
ولا يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ إذ نجد في هذه الخطابات رفضًا لخطاباتٍ تستمرّ في اختزالِ النساء في وظيفةِ الإنجاب وتتعمّد الربط الآلي بين الأنوثةِ والإنجابِ والأمومة ونعثر على انتقاداتٍ تُوَجّه إلى الثالوث: الدولة والنظام الاقتصادي النيوليبرالي والبطريركية، ونجد تحليلًا للنتائج المترتّبة عن فرضِ أنموذج نيوليبرالي للوالدية يُخضع الأمّهات العاملات لتحديّاتٍ كثيرة ويُشعرهن بالفشلِ لعجزهن عن الاستجابةِ للمطلوب منهن، أي إحداث التوازن بين مقتضياتِ العمل المنتج (في نظام لا يوّفر الخدمات ولا يلبّي احتياجات الأمّهات العاملات) ومتطلبات الأمومة "الجيّدة" والوفية للأنموذج.
ما يُقدّم على أنّه "طبيعي" ليس إلا نتاج ثقافة تمييزيّة أفرزت فجوة بين الوالدين ووفّرت مبرّرات للآباء حتى يتنصّلوا من مسؤولية الأبوّة والوالدية
لا تشعر فئة من النساء بالحرجِ وهنّ يتحدّثن عن الأمومةِ المفروضة عليهن، أو تبعاتِ الأمومة الرعائية أثناء أزمة كورونا التي كبّدت النساء مشاقا مضاعفة، وجعلتهن يتحمّلن أعباء كثيرة منها: رعاية الأطفال والإشراف على تعليمهم والعمل على توفير كلّ الخدمات بما فيها طمأنة الزوج القلق والخائف والمتذمّر من "البَيتُوتَة". ولا تهاب الأمّهات الوصم أو النبذ، وهنّ يُعبّرن عن مشاعرِ الغضب والاستياء والغبن والقهر من هذا الربط العضوي بين الأمومة والبيولوجي والفطرة والرعاية، فما يُقدّم على أنّه "طبيعي" ليس إلا نتاج ثقافة تمييزيّة أفرزت فجوة بين الوالدين ووفّرت مبرّرات للآباء حتى يتنصّلوا من مسؤوليةِ الأبوّة والوالدية.
ترفضُ هذه الفئة من النساء الأنموذج الذي تسوّقه بعض المجتمعات والموسوم بـ"الأمومة المكثّفة" (intensive mothering)، وهي أمومة تستنفدُ جهدَ النساء وطاقتهن ووقتهن، فتجعلهن مسخّرات للرعاية ومُجبرات على تقديمِ التضحيات ومطالبات بضبطِ جدول أعمالهن وفق مقتضيات الأمومة والرعاية، وهكذا تُسرق منهنّ حيواتهن وتتدهور صحتهن وتنتفي بهجتهن...
ليس تمثّل الأمّ العازبة أو الأمّ غير البيولوجية أو المهاجرة أو الفقيرة... للأمومة متطابقاً مع تمثّل الأمّ المنتمية إلى طبقة ميسورة
تكشفُ هذه الخطابات المُنتَجة حول الأمومة، على اختلافِ مرجعياتها، وعي أغلب النساء بأنّ الأمومة بناء اجتماعي ثقافي، وهي مرتبطة بمجموعةٍ من التمثلات الاجتماعية والدينية والثقافية والرمزية. ثمّ إنّ الأمومة ذات أبعاد اجتماعية وثقافية واقتصادية ونفسية وصحية وغيرها، وهي متنزّلة ضمن سياقات متنوّعة تجعل تجارب النساء مختلفة من فئةٍ إلى أخرى. فليس تمثّل الأمّ العازبة أو الأمّ غير البيولوجية أو المهاجرة أو الفقيرة... للأمومة متطابقًا مع تمثّل الأمّ المنتمية إلى طبقةٍ ميسورة أو الأمّ المستفيدة من مجموعة من الامتيازات...
وتتضمّنُ هذه الخطابات نصيبًا من المقاومة والتحدّي وتشير في الوقت ذاته، إلى كيفيّةِ إعادة تشكّل الخطابات حول الأمومة من موقعٍ يُسائل مختلف الأنظمة: السياسية والاقتصادية والبطريركية، وكذلك المعرفية. فالمساحة المتاحة في الأكاديميا لمثل هذه المواضيع مفقودة، إذ يُنظر إلى الأمومة على أنّها ''أمور بيولوجية وشؤون نسائية" لا تليق بالدراسة، ويُنظرإلى من تتطرّق لها بأنّها غير جديرة بالتدريس، ومن ثمّة فإنّها تفقد "مكانتها العلمية المرموقة"، وتصيرُ موصومةً أو مُقصاة من المنابر والمحافل "العلمية".