تونس... محاكمات عسكرية!
ما أخطر اليوم بالنسبة للأمس! ففي ديسمبر/ كانون الأول 2010 كنت مطلوباً بسبب مقال صحافي، وكنت أحاول أن أتماسك، إلا أنّي كنت مرعوباً في حقيقة الأمر، لأني لم أكن أعرف إلى أين ستؤول الأمور في ظلّ نظام بوليسي قاسٍ.
ثم حطّت الثورة أثقالها، كنت من المتحمسين والمشاركين فيها، أملاً في المساهمة في هدم جدار الخوف. وفي يوم 13 يناير/ كانون الثاني 2011 مساء، قلت للأستاذة خديجة بن قنة، في مداخلة تلفزيونية، إنه لا تزال أمام شعبنا خطوة واحدة للتحرّر. ويوم 14 يناير/ كانون الثاني صباحاً، قلت لنفس الإعلامية لقد تحرّرنا، وفي مساء اليوم، قلت، ودون تردّد، لمراسلة راديو كندا، حينما سألتني لمن ستؤول دورة الحكم بعد هروب الطاغية، إنّ الحكم سيؤول حتما للإسلاميين، دون غيرهم، وبالذات لحركة النهضة، فهي الفصيل الوحيد الذي نكلت به الدولة وشرّدت أبناءه في ظلّ نظامين متعاقبين، هما النظام البورقيبي ونظام بن علي. ويدرك الشعب الخائف أنّ هؤلاء الذين ذاقوا ويلات الاستبداد سيكونون الأكثر عملاً على منع الظلم الذي احترقوا به، وعلى ضمان الحريات للجميع. ثم فازت الثورة في خطواتها الأولى، وحَكم الإسلاميون.
وبعد أكثر من عشر سنوات من زلزال هذه الثورة، صرنا لا نقرأ ولا نسمع إلا عن المحاكمات العسكرية. أزيح الإسلاميون من الحكم، وعاد الخوف وعاد ضيق النفوس من الرأي، وابتدأ التدقيق والتضييق على الحريات، إلى أن وصل الأمر إلى استعمال القضاء العسكري في مسائل مدنية. وبعد التتبعات القضائية التي طاولت إعلاميين، ها هي أحكام أخرى تطاول قيادات من حزب "ائتلاف الكرامة" المعارض.
المحاكمات العسكرية قد تكون أمراً عادياً يحصل في كلّ دول العالم، إذا تعلّق الأمر بعسكريين، أما إذا تعلّق بالمدنيين، فالأمر جلل، وهذا أمر لا يحدث مطلقاً في دول تحترم الحريات وتلتزم بمبادئ الديمقراطية.
عاد الخوف وعاد ضيق النفوس من الرأي، وابتدأ التدقيق والتضييق على الحريات
أن يحكم القضاء العسكري على المدنيين هو أمر يضع ألف سؤال وسؤال حول مدنية الدولة، فهل تحوّل ذاك الحلم الشعبي في التحرّر من عبودية كلّ سلطة قائمة، إلى سلطة خادمة للشعب، كما تنصّ كلّ الدساتير الديمقراطية، أم عدنا إلى المربع الأول كما كنّا أو أسوأ منه؟
من حق أي مواطن تونسي أن يسأل: ما الجرم الخطير الذي ارتكبته قيادات "ائتلاف الكرامة" في حادثة المطار بالذات؟ والتي حدثت يوم 15 مارس/ آذار 2021، حين حضرت هذه القيادات إلى المطار نصرةً لامرأة منعت من السفر، تحت آلية ما يسمى "س 17"، والتي لا يعرف المتضرّر منها أسباب منعه، ولا حتى الطرف الذي قد يعينه على التخلّص من هذا المنع. وما الجرم الكبير الذي ارتكبه قياديو الائتلاف وهم لم يحملوا سلاحاً، ولم يكسروا أثاثاً، ولم يصيبوا جسداً بضرر؟ كلّ ما فعلوه مجرّد ترهات صبيانية، مبنية على الصياح، لا تقدّم ولا تؤخر، ومجرّد شعارات سياسية مناصرة للحرية في ظاهرها. فهل كان يستحق ذلك تحويلهم إلى القضاء العسكري؟ لقد كان كافياً أن يظل الأمر مدنياً، كما ابتدأت الشكاية بهم يوم 17 مارس/ آذار 2021؟
وهناك مسألتان مهمتان، من الضروري معرفة كيف ستجيب عليهما السلطة القائمة. المسألة الأولى: كيف يحاكم مواطن على نفس الفعل مرتين؟ فهذا يجرمه القانون التونسي. فمثلاً، المواطن سيف الدين مخلوف حُوكم مدنياً بثلاثة أشهر سجناً نافذة، وبعد الاستئناف تمّ تثبيت الحكم مع تأجيل التنفيذ. ثم أصبح هذا الحكم باتاً لأنّ النيابة العمومية لم تعقبه. ألم يكن أولى بالسلطة القائمة، وهي تدّعي احترام القانون والحريات والمؤسسات، أن تستنكر أن يحاكم مواطن من مواطنيها مرّتين في حادثه واحدة؟! إلا أنّ السلطة صمتت.
أما المسألة الثانية، فلماذا تحوّل ملف حادثة المطار، المثيرة للجدل، من القضاء المدني الذي بتّ فيها، إلى القضاء العسكري بعد أحداث 25 يوليو/ تموز؟ وكيف ستجيب السلطة القائمة عن أهم الأسئلة المطروحة؟
ومن هذه الأسئلة: من أمر بفتح المحكمة بعد منتصف الليل، كما يدّعي محامو الدفاع في القضية، لإيداع شكاية ضد المتهمين لدى القضاء العسكري؟ والمضحك أنّ التونسي بعد الثورة صار لا يعمل في أوقات عمله العادية، فمن أين حظي بهذا النشاط الخارق ليفتح محكمة في منتصف الليل، ويسجل شكاية؟ كذلك لم تتحرّك السلطة لدرء هذه الشبهات عنها، لأنها المتهم الوحيد، إلى حدّ الآن، بفتح المحكمة وتحويل الشكايات إلى القضاء العسكري، من أجل الانتقام من منافس سياسي، لم يتعلم الصمت ضد فرنسا وضد اتحاد الشغل وضد الرئيس قيس سعيد نفسه.
وللأسف، كيف يكون الانتقام بالمحاكمات العسكرية، والسلطة القائمة تدّعي احترامها والتزامها بحقوق الإنسان، مهما كان انتماؤه الأيديولوجي؟
بعد أكثر من عشر سنوات عدنا إلى مربع الخوف بشكل أكثر شراسة مما كان قبل الثورة
والمؤسف كذلك أنّ كلّ الذين وجهت ملفاتهم للقضاء العسكري هم متهمون من طرف مقرّبين من السلطة القائمة بأنهم إسلاميون، إما مكشوفون، أو داعمون، وهو ما يبدو بأنّ فيه رائحة التصفية الأيديولوجية، ما بعد 25 يوليو/ تموز. فتيار 25 يوليو كان نقطة فاصلة في تاريخ الثورة، أزاح الإسلاميين من الحكم، وشرّع أبواب المحاكم العسكرية لهم، أو لمن يشتبه في دعمهم. فهل تحوّل هذا التيار إلى أداة تصفية واستئصال، في دولة كان يجدر بها أن تنحو نحو تحقيق العدل والمساواة والحفاظ على الحريات؟ على من أخطأ، أن يتحمّل مسؤوليته ويحاكم ضمن الأطر القانونية بالمواصفات العالمية التي تضمن الحقوق، لا في الثكنات العسكرية.
وللأسف كذلك، بعد أكثر من عشر سنوات عدنا إلى مربع الخوف بشكل أكثر شراسة مما كان قبل الثورة. فقبل الثورة لم تستعمل المحاكم العسكرية إلا نادراً، وما بعد 25 يوليو/ تموز أطلق ذراع القضاء العسكري على خصوم يشتبه في أنهم من لون واحد.
وعلى ما نعتقد، فإنّ تحريك القضاء العسكري لن تكون له نهاية في القريب العاجل لسببين اثنين: الأول أنّ السلطة القائمة تعتبر أنّ أغلب الخصوم والمعارضين مجرمون وفاسدون، والسبب الثاني أنها تعتقد، ومن معها، بأنّ أي انتخابات قادمة حرّة ونزيهة وشعبية، ستعيد الإسلاميين إلى المشاركة في الحكم.