ثقب الوطن الأسود
سألني صديق هندي مسلم يقيم في العاصمة الماليزية، كوالالمبور: "بما تفسّر عدم وجود مظاهر كرنفالية احتفالية شعبية ضخمة في شهر رمضان المبارك كما هو موجود في مدن مثل مومباي ودلهي وغيرها من المدن الهندية الكبيرة، بالرغم من أنّ ماليزيا دولة مسلمة، والهند ليست كذلك بالطبع؟!".
لم يكن السؤال إلا مجرّد ثرثرة لتمرير الوقت حتى أذان المغرب، لكنّي كمصري أصيل، لا يترك سائلاً دون إجابة بغضّ النظر عن مدى علمه أو جهله بالأمر، نظرت إليه بتمعن، ثمّ استحضرت ابن خلدون، الذي يكمن داخلي، وكانت إجابتي كالتالي: "المجتمعات المتمدنة الحداثية لا يجد أفرادها حاجة إلى بعضهم البعض، لأنّ كلّ واحد منهم يملك مقومات الحياة الكريمة منفرداً، وإن احتاج شيئاً، فإنّ حكومته هي المسؤولة عن تلبية احتياجاته، وهي الملامة إن قصرت، على عكس المجتمعات الفقيرة الكبيرة والقديمة، حيث يُدرك أفرادها بذكائهم الجمعي، أنّ الدولة لن تُعير مشاكلهم أو حتى كوارثهم اهتماماً يذكر، لذلك فعليهم أن يعزّزوا الروابط الاجتماعية في ما بينهم بشكل دائم ومستمر، ويظهر ذلك الترابط في أفراحهم وأتراحهم ومناسباتهم الاجتماعية المختلفة، ولأنّ رمضان، هو أكبر وأطول مناسبة اجتماعية عند المسلمين، فإنّ هذا التباين يظهر فيه بوضوح".
أطرق الرجل ملياً، ثم مطّ شفتيه اقتناعاً بكلامي أو هكذا هُيّئ لي، فشجعني ذلك على أن أتبع النظرية الأولى بأخرى تعضدها، لم لا؟ لا عليك سوى أن تتأمل، ثمّ تُطلق لخيالك العنان...
هل سمعت عن الثقب الأسود؟
هو منطقة موجودة في الفضاء غير المرئي، تشكلت على مدار ملايين السنين بعد انهيار وتفتّت نجوم ضخمة، حيث تسقط المخلّفات في نقطة تكبر رويداً رويداً من خلال جذب المزيد من النجوم والكواكب والمخلفات لتمتصّ كتلتها، ومن ثم الاحتفاظ بجاذبيتها في حالة لا نهائية من الاستحواذ على الكتلة والجاذبية، حتى أنّ الضوء نفسه لا يستطيع أن يغادرها من شدّة جاذبيتها، لذلك سميت بالثقب الأسود.
يمكن تطبيق نفس المبدأ على الأوطان. فبلد مثل مصر على سبيل المثال، وعلى مرّ تاريخها الطويل، بزغ داخلها الكثير من الحضارات والدول، والتي ما لبثت أن أفلت وانكدرت، فيما هي (مصر) لا تزال موجودة وقائمة، رغم ما مرّ عليها من أحداث جسام تزول بسببها الجبال. وكم من غازٍ غزاها ثمّ انكسر على أعتابها أو سكنها كواحد من أهلها، حيث امتصت مصر تاريخ وحضارة وثقافة كلّ من مرّوا عليها، فاستحوذت على جاذبيتهم مجتمعين، ومازالت تفعل.
امتصت مصر تاريخ وحضارة وثقافة كلّ من مرّوا عليها، فاستحوذت على جاذبيتهم مجتمعين، ومازالت تفعل
يتضح ذلك جلياً في يوم كـ"شمّ النسيم"، حيث يرجع البعض طقوسه إلى أنها عادات فرعونية قديمة ويحتفل به مسيحيو مصر كمناسبة دينية يفطرون فيه من صيام طويل. أما باقي الشعب، فلا يكف عن الاحتفال في هذا اليوم بملء بطونهم من البيض و"الفسيخ" (سمك مملح ومجفّف) وأنواع أخرى من الأسماك المملّحة غير عابئين بتحذيرات وزارة الصحة من جهة، أو حتى بفتاوى تحريم الاحتفال بهذا اليوم من جهة أخرى. فمن أين تكوّنت تلك الثقافة؟ ومن اخترع تلك الطقوس الاحتفالية؟ ربما تجد إجابة أو لا تجد، لكن الأكيد أنّ شيئاً كامناً في العقل الجمعي يدفع الناس دوماً في هذا الاتجاه.
من ابُتلي بالولادة فيها أو العيش فيها، أو حتى زيارتها لبرهة، ثم تركها سيدرك تلك الحقيقة لا محالة، فلا أعرف أحداً مرّ عليها إلا وقد تركت أثراً غائراً في نفسه، سلبيا أو إيجابيا. ربما، ليس أكيداً هذا الكلام، لكن الأكيد أنّك لن تمرّ عليها ثم تخرج بسلام، لقد انتهى أمرك مهما أظهرت من عدم الاكتراث. سينكشف ضعفك أمامها عندما يراك أحدهم تسمع درساً لمشايخها أو أغنية قديمة لأحد المغنين المصريين، سوف تبحث لاإرادياً عمّن يصنع طعاماً مشابهاً لما كنت تأكله فيها، وستبقى تسمع أخبارها، ربما لتلعن أيامك التي عشتها فيها، سوف تلعنها ولهيب الشوق إليها يذيب قلبك وسوف تحمد الله، أنك خرجت منها سالماً، ثمّ تدعوه أن تعود إليها آمناً مطمئناً.
إنها ثقب أسود يزداد جاذبية كلّما مرّ عليه الزمن، وسوف تطاردك تلك الجاذبية إلى الأبد مهما ابتعدت أو ظننت أنك في مأمن، فلا أمل في المقاومة ولا داعي لها، فقط استسلم لمصيرك المحتوم وابتسم وأنت تتخيّل قدمك البائسة تطأ أرضها مرّة أخرى..