جامعة الشعراء الرديئين المتحدة
سننشئ جامعة مجيدة اسمها "جامعة الشعراء الرديئين المتحدة"، وكلّ أسبوع سنكرّم شاعراً رديئاً مشهوراً، وأفضل يوم بديهي لذلك، هو يوم الثلاثاء، وليس السبت.
سنكرّم فقط الذين يكتبون ويكتبون ويكتبون.. والتاريخ لا يلتفت إليهم. سنلتقط خلال الحفل صوراً كثيرة للشاعر الرديء الحزين، فارس الكلمات المخذول، وقد امتطى كالدونكيشوت صهوة المنبر. إنّه، كاتب القصائد الشاقولية الهدّامة للذوق، شاعر باعة السردين المتسخين بالحراشف، ولصوص الغسيل، والحمّالين في سوق الجملة، أي شاعر الفرص العظيمة الضائعة. هو أيضاً، بلا أيّة أمجاد تُذكر، إنّه الشاعر اللّجوج الذي لا يتعب من الشعر الملتبس، والصور المضبّبة، والمجازات المستحيلة، والاستعارات الشائعة. قد يكون شاعر الشعر الحر، أو شاعر التفعيلة والوزن الثقيل، أو شاعر القوافي المتينة كمتاريس من الإسمنت المسلّح، أو شاعر قصيدة النثر اللقيطة المتهتكة... الشاعر الذي يكتب كلّ شيء بنفس الطريقة، لكن كلّ مرّة تطول القصيدة أكثر، وتتشعب أكثر، وتتلولب أكثر في عين القارئ.
إنّه الشاعر الرديء جداً، صاحب الكتب الشهيرة، تلك التي بلا غلاف، وصاحب السرير الذي يتسع لشخص واحد، مع كرسي واحد للضيوف والمعجبين، في غرفة واحدة ووحيدة على السطح، وليس لها باب.
ثم يأتي دور الشاعر البورجوازي، مدخّن الغليون الإنكليزي المعقوف، ذو لكنة العائلات المحافظة على نقاء دمها من البعوض، الأكثر رداءة من سابقيه. هذا الذي يجمع من الشارع شعراء يكادون يموتون من البرد في صالون شهري مكيّف من الطابق الأرضي، حيث الفيلا أفخم من كلّ القصائد الممكنة، وحيث المزهريات الثمينة تحبس أنفاسها كي لا تقع أثناء التصفيق الطويل العشوائي، وحيث عازف العود المصاحب بالعزف للقراءات الكثيرة، يسقط في غرام الخادمة الفقيرة التي تقدّم الكعك للفنانين، وهي لا تسرّح شعرها عند الكوافيرة أبداً، لكنها أجمل من كلّ القصائد العصماء. العازف يعزف مقوّساً ظهره، والشعراء يقرؤون القصائد الطويلة جداً بتأثّر، دون أن يضحك أيّ أحد، ورغم ذلك لا يدخل الشعر من النوافذ الكبيرة المفتوحة المطلّة على مسبح فسيح، أبداً لا يدخل.
يكتب كلّ شيء بنفس الطريقة، لكن كلّ مرّة تطول القصيدة أكثر، وتتشعب أكثر، وتتلولب أكثر في عين القارئ
أيضاً، لا يجوز أن ننسى الشاعرة الحامل، في شهرها الخامس، والتي ستسمي ابنها طاغور. عاشقة القبعات، والعشاءات الدسمة بعد إلقاء القصائد. الشاعرة التي يجلس زوجها ذو البذلة الرمادية المكوية، كناقد، وسط الجمهور، ليسمعها بتركيز بوذي، تشجيعاً منه للثقافة، حيث يبدأ الجميع بالتثاؤب. إنّها دائما تشرح للناس قصائدها الطويلة، تشرح الظرفية، ومكان الإلهام، وسبب النزول. كما أنّها تقرأ بصوت مدوٍّ، إيماناً عميقاً منها بمساواة الرجل مع المرأة. الشاعرة الطباخة رغم ذلك، مُعِدَّة الأطباق المتنوعة، واختصاصها الأكثر شاعرية هو تزيين السلاطة، إنّها شاعرة رديئة بلذّة لا تقاوم.
ثمّ هناك الشاعر مدخن "السبسي" (عود يستخدم للتدخين)، كاتب قصائد المديح والحماسة. الشاعر الزجلي، الذي يستعمل دائماً كلمة "دلو" في قصائده الشعبية العظيمة الباكية الشاكية، والتي لن يسمعها أبداً الفلاحون، والتي لا تُبكي أحداً. هو الشاعر الذي يدخّن في المنبر، وينفخ سحابة الدخان لتعبر ببطء فوق رؤوس الجمهور، يرتدي جلباباً، وعمامة على العنق بدل كشكول. هو أيضاً، نحيف بالضرورة كالسبسي الذي في جيبه العميق الفارغ، ومترجم شكسبير تطوّعا إلى اللغة الدارجة، مشجّع فن الحلقة، وناسخ الأمثال الشعبية بخطّ كوفي سميك. إنّه، كاتب الزجل الرتيب كمطرٍ غير نافع فوق قصدير صدئ. يجلس على صندوق خضار، في واجهة حي شعبي لا يوجد على الخريطة، حيث الأطفال ينقسمون في لعبة الحرب إلى كتيبتين، الأولى تشجّع ريال مدريد، والثانية تشجع برشلونة، قاذفين بعضهم بأحجار اللهو الضخمة، وأحياناً تصيبه إحداها فيضحك وهو يحتضر. هؤلاء الأطفال الذين سيصيرون مراهقين بسرعة، مهووسين بالرّاب، والإيمو، وبتلحين قصائد زجلية أصيلة، بالأورغ والباتري، بقبعات غريبة، وسراويل نازلة حتى الركب... يمجدون البادية والمقدسات والهروين، فيفخر هو أكثر بعظمته.
هو شاعر مستعد للموت والنضال بحمل السلاح عند الحدود، ورغم ذلك يعيش بعيداً عن مخافر الشرطة، ويكره الضجيج والاستجوابات
لا يجب أن ننسى الشاعرة الشابة أيضاً، المحافظة على القيم الأسرية، ملبيّة الدعوات للأعراس وأعياد الميلاد. الطالبة النجيبة المحجبّة أحياناً، كاتبة الخواطر اللاهبة، الخجولة جداً كضفدعة برتقالية صغيرة، سريعة البكاء دون سبب كرضيع، والتي يستطيع حتى النسيم العليل جرحها. كاتبة القصائد القصيرة المبهمة، مع نقاط كثيرة، وعلامات تعجّب، واستفهام، وفواصل وفراغات عريضة بين الأسطر.
ثمّ الشاعر الصارم، ذو النظارات الطبيّة المقعرة، الذي يعيش طويلًا، ولا يمرض، ولا يموت. حارس اللغة من الأخطاء، ومن المتهوّرين. مصحّح امتحانات تلاميذ كسالى، في جوف الليل، على ضوء أباجورة ذات عنق زرافة. الشاعر المعمّر، عاشق المقامات والقصائد العصماء في الشعر الرصين، الشاعر الذي يتعارك باللّكمات في اللقاءات الثقافية مع من يكسرون جموع القِلّة بقِلّة أدبٍ عمداً، ورغم ذلك لا يفقد مهابته. بل خوفاً من لكماته، يبحث الطلاب والكتّاب المبتدئون برهبة في المعاجم، عن شرح الكلمات قبل قراءتها، ويحفظون بعض القواعد للاحتجاج بها بدماثة أثناء هجوم لغوي مستميت بقنابل الإعراب. إنّه يعشق البلاغة، ومن لا يعشق البلاغة ويغار عليها في نظره، لن يغار حتى على زوجته. إن كنت شجاعاً أعطه قصيدة غير مقفّاة، إن كنت حقاً شجاعاً قرِّب أنفك من قبضته.
وأخيراً، وليس آخراً علينا ألّا ننسى الشاعر الملتزم، المدافع عن الحقوق المهضومة، الذي يسكن في بيت مفروش بالإيجار في عمارة نحيفة بلا بوّاب، وبلا مصعد. الموظف غير السامي، ذو المبادئ. مناهض الضغوطات الاستعمارية، والفطِن لألاعيب الإمبريالية الحديثة. رافض الرشوة، وكاتب القصائد ضد القمع، والتي تصلح أن تُغنّى دون حتى موسيقى، ودون حتى غناء. كاتب شعارات المظاهرات، السجين السابق في معتقلات وهمية، المضرب عن الطعام كلّ مرّة، كاتب المراثي المؤثرة، صديق الحشرات، المستعد للموت والنضال بحمل السلاح عند الحدود، ورغم ذلك يعيش بعيداً عن مخافر الشرطة، ويكره الضجيج والاستجوابات.
شاعر مقاوم للرتابة بامتياز.