جنازة عابرة في زمن مستقطع
عبد الحق مفيد
قادتني ظروف العمل في العقد الماضي، وبالضبط سنة 2010، للعمل في مدينة شيشاوة، وهي مدينة صغيرة تقع على الطريق الرابط بين الدار البيضاء وأغادير بالمغرب.
توجد المدينة في مفترق طرق بين سهول الرحامنة شبه القاحلة شمالا وجبال الأطلس الصغير جنوبا. كان من عادتي أن ألتجئ إلى أحد المقاهي بعد كلّ يوم عمل، وفي الجهة المقابلة، توجد مقبرة على مرتفع، حيث تبدو القبور بلونها الأبيض وكأنها نبتت كالفطر لتغطي التلّة بالكامل. أخبرني النادل (والذي كنت أحدثه بين الفينة والأخرى) بابتسامته العريضة وبشغبه الطفولي أنّ التلة لم تكن صالحة لبناء "قبور الحياة" (عبارة يطلقها المغاربة على مساكنهم)، فتمّ تخصيصها لبناء قبور حقيقية.
جلوسي بهذا المقهى كان يتيح لي مشاهدة ومتابعة العديد من الجنائز، ومن كثرة مواكب العزاء التي عبرت أمامي، أصبحت لديّ ألفة مع الموت لم أعهدها من قبل.
لكن ما حدث عصر ذلك اليوم من شهر يونيو/ حزيران، وقد كان الجو حاراً وخانقاً بشكل لا يطاق، ما زال راسخا في ذاكرتي حتى اليوم. لمحت يومها موكب جنازة يتكوّن من ستة أفراد، أربعة يحملون النعش واثنان يسيران وراءه، لم يكن هناك جموع خلف النعش، ولا سيارات، حتى السيارة التي تقل الموتى لا وجود لها، ووجدتني ودون كثير من التفكير أنضمّ إليهم وأمشي خلفهم. صرت سابعهم ومكمّلهم، ألا يرمز رقم سبعة للاكتمال؟
التلة لم تكن صالحة لبناء "قبور الحياة" (عبارة يطلقها المغاربة على مساكنهم)، فتمّ تخصيصها لبناء قبور حقيقية
رمقني أحدهم باستغراب بدا واضحاً على محياه، كنت أبدو من ملابسي وهيئتي أنّي غريب عن هذا المكان، ربما تساءل عن العلاقة التي تجمعني بالراحل أو الراحلة؟ لكن لا أحد منهم نبس ببنت شفة، كان الصمت ثقيلاً ورهيباً. تبعتهم نحو مكان القبر، وقد كابد من يحملون النعش عناء صعود التلة. كان جوف الأرض مستعداً لاستقبال الجثة، أما أفراد الموكب الذي صرت أحدهم، فقد كانوا في عجلة من أمرهم للتخلّص من هذا العبء.
تمّ الأمر بسرعة، ودون أيّة عناية أو كياسة تذكر، تمّت مواراة الجثمان التراب وإسدال الفصل الأخير من حكاية الفقيد. ثمّ همّ الجميع بالانصراف، لكنني تدخلت وأوقفتهم طالباً منهم الدعاء للراحل. نظروا بعضهم إلى بعض، وقد بدا لي أنهم لم يفهموا ما قلت حتى بدأت بقراءة الفاتحة، فرفعوا أيديهم معي بالقراءة والدعاء. خمنت أنهم أمازيغ، وربما لا يتحدثون العربية بالمطلق. لم نكن بحاجة للغة مشتركة، فلغة الموت واحدة.
أتممت قراءة الفاتحة وبدأت بالدعاء للميت، ولأنّ لا معرفة لي بالميت، ولا علم لي، إن كان في القبر، رجل أو امرأة، لم أذكر جنسه، ولا كيف عاش، ولا ما فعل، ولا ما ترك وراءه، أو إن كان صالحا أو عكس ذلك. كنت أتوّجه للخالق أن يغفر له، وأن يستقبله في عليائه بالرحمة والمغفرة.
انتهى كلّ شيء وعدت من حيث أتيت، ثم لسنوات عديدة بقي هذا الحادث يشغلني وكنت دائما أرى نفسي وكأني آخر يقوم بما قمت به، مع أسئلة كثيرة تراودني: ما الذي حرّكني للانضمام لموكب الجنازة؟ ما الذي أربكني، وما زال، كلّما تذكرت ما حدث؟ هل هالني تنكّر معارف الميت له، وعدم تشييعه إلى مثواه الأخير؟ هل خفت أن تكون جنازتي بمثل هذا النكران والجحود، فشاركت في مثيلتها، ما دمت موجوداً على قيد الحياة؟ هل رأيت نفسي في الآخر الذي مات، وانتهى ولم يشيّع كما يجب؟
لكن ما كنت أعرفه يقيناً هو أنّي كنت أشارك في جنازة إنسان، أحسست في تلك اللحظة أنّ ما يجمعنا أكثر مما يفرّقنا، وأنّه من الواجب عليّ والحق له أن أودعه إلى مثواه الأخير، وأمنحه الوداع الأخير، ولو أنّي لم أعرف من يكون، ولم أكن بحاجة لأعرف أصلا.