جهنّم بين أربعة حيطان
كان شهر يوليو/ تموز، حين رموني من غياهب مقرّ الأمن الوطني إلى الزنزانة، في حجز مركز الشرطة الذي تسع الزنزانة فيه بالكاد عشرة أشخاص ملتصقين، لكنها على ذلك كانت تضمّ نحو أربعين رجلًا باختلاف أحجامهم، معبأين في علبة من جدران وحديد، وكانت الزنزانة عبارة عن "قبو" تحت الأرض، لكنهم حوّلوه إلى زنزانة من باب التوسعة لاحتواء العدد، وأغلقوا هذا القبو بحديد وباب، لولا هذا لانسكب الناس إلى الخارج كلّما فتح الضابط الزنزانة، كأنهم قطع زائدة محشورة في الفريزر، تسقط كلّها كلْما فتحت عليها الباب.
وجدت الجميع يتأفّفون من الزائر الجديد، لأنّ المشرحة "مش ناقصة قتلى"، والمساجين يكادون يفطسون من الحر، والسجّانة لا يفتحون الأبواب، والشرطة ترفض وضع ولو مروحة في الزنزانة، والنزلاء يُغرقون ملابسهم في المياه الباردة، ثم يرتدونها، لتجفّ بعد دقائق قليلة من سخونة أجسامهم، خصوصًا إذا كانوا في "بدروم" تحت الأرض.
ومع أنني لا أعرف في التصميم الهندسيّ إلا القشور، ولست مهندسًا ولا معماريًّا ولا مختصًّا في التصميم المنزلي، لكنني متأكد أنّ من بنوا هذه الغرفة المصمتة بلا تهوية ولا فتحات ولا مكان للتنفس لا يعرفون عن التصميم والهندسة أكثر مما أعرف أنا، والأهم هم هؤلاء المجرمون الذين لا تلزمهم الهندسة إن كانوا لا يعرفون عن الإنسانية شيئًا.
حرارة فوق الأربعين درجة، وثلاثة أمتار فيها فوق الأربعين شخصًا، معادلة ملائمة جدًّا للتبخر والانصهار، فإن كنت الآن تتأفف من المروحة التي تجلب لك الهواء الساخن، والمكيّف الذي لا يشبع من "الفريون" (غاز التبريد المستخدم في المكيّفات)، وتهوية البيت التي لا تُدخل إلا الحشرات، فإنك لم تُسجن في مصر! وهذه وحدها كفيلة بأن تشعرك بمدى حلاوة الطقس الذي تعيش فيه ولو كنت تائهًا في الصحراء العربية.
كنّا نُترك في الشمس لساعات إلى أن يحين الدور، ونحن نُسلق تحت هذه الشمس القاسية، نمرّ بكل مراحل الطهو والشواء والقلي
ثم الترحيلة، حيث العربة التي من صاج أزرق، لا يمتصّ الحرارة فقط وإنما يخزنها، لو وضعت فيها أي شيء يُطهى، فيمكنك الحصول عليه وقد نضج بعد عشر دقائق. العربة التي تحمل نحو خمسين شخصًا، لساعات في زحام القاهرة والجيزة، مع سائق يشعر بنشوة السلطة، وأنه لا يحمل معه بشرًا، ولا بهائمَ، وإنما سجناء، ولن يجرؤ أحدهم على التنفس، نطرق الأبواب والجدران والخزان عملًا بنصيحة المرحوم غسان كنفاني، لكن لا يحدث شيء، السائق مستمر في طريقه مع المطبات والسخونة والكلابشات، والانتظارات بلا داعٍ ليشتري سندوتشات من أي بائع، ونحن نموت ونصرخ تحت الشمس، إلى أن نصل إلى المحكمة، لا نريد شيئًا، ولا نستطيع التفوّه بكلمة حتى لو فيها براءتنا، لأننا لا نقدر إلا على محاولة العيش لمدة أطول، ولا نطمع إلا في انتهاء اليوم والعودة إلى الزنازين مجدّدًا.
كما كنّا نُترك في الشمس لساعات إلى أن يحين الدور، ونحن نُسلق تحت هذه الشمس القاسية، نمرّ بكل مراحل الطهو والشواء والقلي، وأنا أعرف أنه لو كان أحدنا حيوانًا فعلى المضحّي اختيار طريقة واحدة لأكله، إما شيًا أو سلقًا أو قليًا، لكننا كنا نُطبخ بكلّ هذه الطرق دفعةً واحدة، وقد كان الموت أقرب إلى أحدنا من الانتظار ساعةً إضافية في تلك السلخانات المتنقلة، أو السخانات المصمتة.
والآن، لا يعيش المعتقلون ولا السجناء في مصر إلا ما تعيشه الذبيحة، لكن الفرق الوحيد أن الذبيحة تموت ثم تُسلخ، لكن هؤلاء يُسلخون حتى الموت، في جهنم التي بين أربعة حيطان!