جو بايدن وسبانخ بوباي
يمكن القول إنّها أسخف مناظرة سياسية على الإطلاق، تلك التي جمعت بين الرئيس الأميركي الحالي، جو بايدن، والسابق دونالد ترامب. ففيها دمّر بايدن نفسه حرفياً أمام الأميركيين. ليس في صوته الواهن فحسب، بل وفي همهماته، وتمتماته، تيهه، وتردّده أمام الأسئلة. ربّما يعرف بايدن كما قال، ما هو الصحيح؛ لكن ذاكرته مثقوبة وجمله غير متماسكة ويرتكب في الغالب أخطاء لفظية. أمّا ترامب الغريمُ، والذي يُثير الزوابع، فقد بدا هادئاً وواثقاً وهو يسردُ الأكاذيب. مع ذلك وحسب تعبير صحيفة غلوبال تايمز الصينية، فقد كان يُفسد جمله بشكلٍ متكرّر.
مرشحان منتهيا الصلاحية. هذا ما يجول في ذهنِ المشاهد وهو يتابع مهزلة الرجلين التي تحدثت عنها وسائل الإعلام بكثيرٍ من السخرية. إنّها ليلة حزينة، هكذا وباستياء عارم عبّر الأميركيون. وقد تسلّل إليهم إحساس بالعار والذهول من عجزِ جو بايدن، وادعاءاتِ ترامب؛ ومن كمِّ الأضاليل والأكاذيب التي شطحت بها المناظرة.
وبغضّ النظر عن تلك الأكاذيب، بدت الاتهامات بين المرشحين صبيانية حول من كان أسوأ رئيس للولايات المتحدة الأميركية، وكلّ واحد منهما يدفع عن نفسه التهمة قائلاً: "ليس أنا، بل هو". إلى أن وصل الأمر بهما إلى لعبةٍ تحدٍّ مكتملةٍ السُّخف. أي، من منهما يستطيع ضرب كرة الغولف لمسافةٍ أبعد؟ ومع تبادل الاتهامات سقط الاثنان في جدالِ الحمقى. وبشكلٍ غير متوقّع هاجم بايدن خصمه ترامب بسبب ممارسته الجنس مع ممثلةِ أفلامٍ إباحية بينما كانت زوجته حاملاً.
كمٌّ سخيف من الاتهاماتِ والإهاناتِ كان يذكي لغتهما العدوانية، وقد كان له أن يمتدّ إلى نوعٍ من التهريج المبتذل لولا تدخل الصحافيّيْن عند الوقت المسموح به للأجوبة. ومع فداحةِ مشهدٍ يبعث على الرثاء لزعيمي أقوى دولة في العالم، وهما يراهنان على أيّ منهما قادر على ضرب الكرة، لم يكن الوضع أكثر سوءاً وقتامة من رؤيةِ بايدن الشاحب الذي بدا تائهاً بين الكلمات وعلامات الشرود بادية عليه. إذ يمكن للشعب أن يتقبّل، وحتى يثق بسياسي يكذب مثل ترامب، لكنه لن يفعل ذلك مع من يفقد ذاكرته وتركيزه، فيما يتفكّك العالم والكلمات في ذهنه كلعبةِ البازل.
يمكن للشعب الأميركي أن يتقبّل، وحتى يثق بسياسي يكذب مثل ترامب، لكنه لن يفعل ذلك مع من يفقد ذاكرته وتركيزه
هذه الورطة أوجعت الديمقراطيين بلا شك، وفي محاولةٍ لجعل الناس ينسون الإهانة عملاً بمقولةِ كلام الليل يمحوه النهار، خرج الرئيس في اليوم الموالي كطائر العنقاء من الرّماد مُحاطاً بأنصاره المشجعين. وكأنّه يريد أن يخبر الجميع في نهارٍ مُبصرٍ ألّا يصدّقوا كلّ ما رؤوه ليلة أمس، كما لو كان كلّ ذلك مجرّد كابوس يستطيع المرء أن يستيقظ منه. فقد ظهر قويّاً هذه المرّة وهو يتلفظ بكلماتٍ أكثر تماسكاً، ومُنتقاة بعنايةٍ مع عفويةٍ آسرة، وطلاقةٍ لغوية؛ بل وببلاغةٍ مُوجزة سديدة. تُرى ما الذي حدث لصوته الواهن (الذي قيل إنه بسبب نزلة برد)، وأين اختفت تمتماته؟ هل استُبدل بشبيهٍ له؟ أم تناول سبانخ "بوباي" (رجل البحار وبطل الصور المتحركة)، حتى يظهر بتلك القوّة؟
وهو ينهي كلمته أحكم قبضته ورفعها للأعلى قائلاً بلغةٍ حماسية: "أعلم كما يعلم ملايين الأميركيين أنك حين تسقط فإنك تنهض مجدّداً".
كثيرون سيشعرون بالفرق وهم يرونه يتكلّم بهذه القوّة. فبين ليلةٍ وضحاها حدث تباين رهيب في أداء بايدن. أما السرّ في تماسك جُمله، فليس فقط في دواءٍ يشحذ الذهن، ويرشي توازنه النفسي، وهو ما لم ينفعه ليلة المناظرة، وإنّما في الدعاماتِ المُجيّشة لجعله في صورةٍ أقوى وأفضل. منها على الأرجح شاشة الخطاب التي لا بدّ وقد قرأ منها نصّه المؤثّر الذي أثار عاصفةً من التهليل.
هل يعرفُ حقّاً جو بايدن الصحيح من الخطأ، رغم أنه ينسى ولا يتذكّر، يشحب ويضعف ويتعثر؟
هكذا، يجري الدفع برجلٍ فقد أهليته لولايةٍ ثانية. رجل مفكّكٌ، يتعثّر دائماً أمام الكاميرات ويتلفظ بكلماتٍ ويقوم بسلوكياتٍ تفضح حالته الذهنية والعقلية؛ فيما تظل تُحرّكه إلى الأمام خيوط لا مرئية. فهو الرئيس الذي لا يمكن التنازل عنه ليقودَ خطواتِ العالم نحو شبح حربٍ عالميةٍ ثالثة. وإن فقد قدرته على المناظرة، وشيئاً من ذاكرته، فإنّه يعرف كما قال في خطابه الأخير: ما هو الصحيح وما هو الخطأ.
هل يعرفُ حقّاً جو بايدن الصحيح من الخطأ، رغم أنّه ينسى ولا يتذكّر. يشحب ويضعف ويتعثّر؟ ربّما؛ ولربما أيضاً "سبانخ بوباي" كفيلة بحلّ هذه المشكلة.