ما الذي سيبقى من فرنسا في فرنسا المقبلة؟
قريبًا، يُصوّت الفرنسيون كما لم يصوّتوا من قبل، في الانتخاباتِ التشريعيّةِ آخر هذا الأسبوع وفي السّابع من شهر يوليو/ تموز القادم. هناك حالة من الترقّب، ابتهاج غريب أو قلق معقول من إمكانيةِ فوزِ حزب اليمين المتطرّف. وهو ما ترجّحه الاستطلاعاتُ هذه الأيّام.
بالنسبة للمهاجرين من المسلمين والأقليّات، وكذلك للفرنسيين المتشبّعين بقيمِ الجمهورية الفرنسية العريقة، لهم ما يبرّر قلقهم من إمكانية أن يصبح شعار الدولة: "حرية، مساواة، أخوّة"، والمادة الأولى من الدستور الذي يكفلُ المساواة بين جميع المواطنين دون تمييز في الأصل والعرق والدين، مجرّد حبر على ورق. وحين يحدث ذلك ما الذي سيبقى من فرنسا في فرنسا المقبلة؟
بالرغم من كلّ تلك المخاوف المبرّرة، يلقى حزب اليمين المتطرّف الترحيب والدعم لدى شريحةٍ كبيرةٍ من المواطنين الفرنسيين. أمرٌ مثير للتعجّب، ولكن ألم تكن تلك هي من نتائج سوء التدبير السياسي للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بعد أن فقدَ المواطن الثقة في الأحزابِ السياسيّة التقليديّة المعتدلة مع انعدام الرؤيّةِ المستقبليّة؟ أليست تلك هي لعبة الديمقراطية أيضًا حين يصيبُ المللَ الناخبين من وجوه السياسيين، وقد يئسوا من سياساتهم البائسة فأرادوا أن يجرّبوا شيئًا جديداً ويتطرّفوا؟ أو ربّما لينتقموا على طريقتهم، فيلتذّوا بهذه الصفعة القويّة للدوائر السياسيّة كنوعٍ من التمرّد؟
الحقيقة مُغيّبة؛ وستظلّ مغيّبة أمام تغوّل الدعاية التي تعزف على وترِ الخوفِ من الآخر، الإسلاموفوبيا تحديداً
نعم، قد يكون شيء من هذا أيضًا؛ لكن ثمّة تكلفة كبيرة مقابل هذا الاندفاع الانتقامي، فأن يمنح الفرنسيُّ صوته لحزب التجمّع اليميني المتطرّف معناه أن يقوّض البناء الذي تأسّس عليه تصوّر الدولة عبر التراكم والخبرة والتجربة، وفلسفة الحكم؛ أن يختار فرنسا أخرى على النقيض، فرنسا الخائفة حدّ التطرّف والعنصريّة، وانتهاك حقوق الإنسان. فرنسا العِرق الأنقى واللون الأبيض.
لا يجد المتحمِّسون لمارين لوبان وتلميذها، جوردان بارديلا، حرجاً اليوم في رفع شعار حزبهما اليميني المتطرّف إلى أفقِ المثالية، والهتاف له، ذلك لأنّهم مشبّعون بخيبةِ الأمل. وهم يعلّقون هذا الانكسار البليغ على شماعةِ الهجرة. تمامًا كما أراد الحزب حين سوّق هذا الزّعم البروباغاندي، بفمٍّ كبير للكذب. مع أنّ الحقيقة مُغيّبة؛ وستظلّ مغيّبة أمام تغوّل الدعاية التي تعزف على وترِ الخوفِ من الآخر، الإسلاموفوبيا تحديداً. الرّهاب الذي يُعوّل عليه في صناديق الاقتراع لترجيح الكفة، والظفر بالسلطة. مع أنّ المسبّبات للأزمات في الداخل الفرنسي أكثر من أن تُعدّ وتُحصى؛ متعلّقة بالاقتصاد، ولها في الغالب أسباب خارجية، وليس آخرها الحرب الروسية الأوكرانية.
وعلى العكس من بروباغاندا حزب التجمّع اليميني المتطرّف، فالحقيقة أنّ الأقليّات الأجنبيّة قد ساهمت في بناءِ البلد. جلّها كانت من مستعمراتٍ سابقة، ولا يزال إلى اليوم دورها فاعلًا وأساسياً. ورغم تضاعف أعداد المهاجرين واللاجئين البالغ عددهم سبعة ملايين، أي 10.3 في المائة حسب دراسة ديموغرافية للعام 2021، فإنّ فرنسا ما تزال بحاجة إلى المزيد لسدِّ الخصاص وتحريك دواليب الاقتصاد. فهذا العنصر البشريُّ ثروة ومكسب، وليس لعنة ابتُلي بها الفرنسيون ويجب اقتلاع جذورها من الأرض. تلك الحاجة هي ما دفعتْ الجبهة الشعبية (أقصى اليسار والمنافس القوي للتجمّع اليميني المتطرف) إلى تدبيجِ وعودٍ انتخابيةٍ على مقاسِ الطلب بإلغاءِ جميع القوانين التي وضعها ماكرون مؤخراً للسيطرةِ على الهجرة.
يغطّي اليمين المتطرّف فرنسا بظلّه مع ضخامةِ وعوده غير الواقعيّة، وبرنامجه الذي يحمل اقتراحات اقتصادية غير قابلة للتنفيذ
أمّا بشأنِ الخوف على الهُويّة والثقافة الفرنسيتين فهو خوفٌ مرضيٌّ يصعب فصله عن أيديولوجية حزب ذي خلفية يمينية متطرّفة ترى في كلّ ثقافةٍ أخرى تهديداً يعد بزوال الأمّة الفرنسية. كما ترى في المهاجرين على أرضه الأم السيناريو المُعَدّ ليكونَ حصان طروادة المقبل. لقد حدث هذا في الحربِ الباردة، في خوفٍ مُبالغٍ فيه من الشيوعية؛ ويحدث اليوم من الإسلام. إنّه الرّهاب الذي تغذّيه الكراهية لأيّ أجنبي. تلك هي العقيدة التي آمنت بالتفوّق العرقي والانغلاق على الذات. أليس هذا ما عبّر عنه جان ماري لوبان بصراحة في مقابلة مصوّرة العام 1996 حين تلفظ بهذه الكلمات الفظة: أنا أومن بعدم المساواة بين الأعراق؟
ثمّة شيء غير معقول إذاً في أن يمنح أغلب الفرنسيين صوتهم لجوردان بارديلا، ولكن هذا ما سيحدث وفقاً للتوقّعات. فغير المعقول هو ما يَسِمُ لحظتنا التاريخية هذه. إنّ اليمين المتطرّف يغطّي بظلّه فرنسا مع ضخامةِ وعوده غير الواقعيّة، وبرنامجه الذي يحمل اقتراحات اقتصادية غير قابلة للتنفيذ على الوجه الأنسب، لأنّ مساحة المناورة في الميزانية الفرنسية حسب وزير الاقتصاد، برونو لو مير، هي صفر. فيما يتوعّد بالكثير من الإجراءاتِ القانونيّة التي تصل إلى حدّ التجريم أحيانا حيال المهاجرين. وربّما دفع بإجراءاته هذه وغيرها إلى الكثير من الفوضى أيضا، وقد حذّر من ذلك الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، قبل أيام. ناهيك عن قراراتٍ تُنذر بخروجِ فرنسا في نهايةِ المطاف من الاتحاد الأوروبي في حال تمّ خفض مساهمة فرنسا في ميزانية الاتحاد بملياري يورو.
كلّها إجراءات وتدابير تقوّض ما انبنى عليه توجّه الدولة الفرنسية، لكن التخمينات ولو بفرضياتها القويّة لن تحدّد لنا الآن كيف ستكون فرنسا المقبلة بقيادة اليمين المتطرّف. ولا كيف سيكون أداء رئيس حزبه جوردان بارديلا إذا وصل إلى قصر ما تينيون، وهل سينجح مع كلّ تلك التدافعات تحت قبة البرلمان الفرنسي في تشريع وإنزال قوانين ممسوسة بنزعةِ التطرّف تجاه المهاجرين، تلك النزعة التي شبّ عليها شاب في العشرينيات لا يحوز خبرة سياسية كافية أكثر ممّا يملك عقيدة منغلقة؟
الجواب مقدّر له أن يظلَّ في طيّ الغيب، إلى أن تقول كلمتها الصناديق.