حرب الشيدر والمعارك الآمنة (1/2)
لامني بعض متابعي مدونة (الكشكول) الكرام لأنني لم أكتب شيئاً عن موضوع حملات مقاطعة المنتجات الفرنسية التي تصاعدت في الفترة الأخيرة، والحقيقة أنني كتبت عن هذا الموضوع من قبل، ولكن في عام 2006 عندما تصاعدت حملات مقاطعة المنتجات الدانماركية لنفس السبب الذي استدعى الآن حملات مقاطعة المنتجات الفرنسية، ولذلك لم أعتقد أن هناك جديداً يمكن أن أضيفه، وإذا كنت تعتقد أنني مخطئ فاقرأ السطور التالية واحكم بنفسك:
"طلب مني صديقي المتحمس أن أشارك معه في حملة نظمتها بعض المواقع الإلكترونية لإرسال رسائل إلى الشعب الدانماركي تشجب وتدين تعاطف بعض قطاعاته أو صمتها على الرسوم الكاريكاتورية التي تطاولت على مقام سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام، شكرت له حماسه في الدفاع عن سيدنا النبي وهو حماس أعلم أنه ينبع من إيمان حقيقي وغيرة صادقة، لكنني بعد تفكير دام لحظات سألته: تعال نفترض أن أحد أفراد الشعب الدانماركي تفاعل مع رسالتك وأرسل إليك يسألك سؤالاً بسيطاً جداً يقول فيه "إذا كنتم غيورين كمسلمين على نبيكم عليه الصلاة والسلام وإذا كان كما تقولون رجلاً بهذه العظمة والروعة وإذا كانت تعاليمه لكم قبل أربعة عشر قرنا بها حلول ناجعة لكل مشكلات الحياة، فلماذا أنتم على ما أنتم عليه من تخلف وفساد واستبداد وجهل ومرض، لماذا نحن أفضل منكم في كل شيء بينما نحن لا ندعي أننا متبعون لتعاليم نبينا المسيح عليه السلام ولا ندعي التمسك بالكتاب المقدس".
بذمتك كيف سترد على من يسألك هذا السؤال؟ ارتبك صديقي للحظات ونظر لي كأنه ينظر إلى عبد الله بن سبأ، ثم اندفع مبتعداً وهو يتهمني بالسوفسطائية وإثارة الشبهات والسلبية واتهامات أخرى لم أركز معها، فقد كنت أفكر في إجابة للأسئلة الدانماركية التي افترضتها، والتي أتمنى أن تشاركني عزيزي القارئ في محاولة الإجابة عنها فهي أسئلة حتمية سنسمعها قريباً، بعد أن بدأ صوت الغضب والهيجان يخفت وبدأت الدعوات للحوار تتعالى من أكثر من إتجاه، وبعد أن دخلت على خط المعركة أكثر من قوة دولية لم نمتلك للأسف شجاعة إعلان مواجهتها، ربما لأننا نعلم أننا لو قاطعنا المنتجات الأمريكية والإيطالية والفرنسية والألمانية والهولندية والبريطانية فسنمشي عراة حفاة، ونصبح كالطير تغدو خماصا ولاتروح بطانا.
بالمناسبة أريد أن أقول هنا إنني كنت سأفرح بدعوات المقاطعة وأطبقها لو كانت تنطلق من رؤية حضارية شاملة كالتي تبناها الزعيم الهندي غاندي، تدفعنا للاعتماد على الذات في كل شيئ بدءاً من اللقمة التي نأكلها وحتى الهِدمة التي نلبسها، لكنني لست مستعداً أن أشارك في حملة نفاق مقنعة يدعو الناس فيها للمقاطعة عبر هواتف محمولة وأجهزة كمبيوتر وشاشات تلفزيون كلها ليس لنا فضل في أي مسمار أو خلية إلكترونية فيها.
ندعي أننا نحب نبينا لكنه حب ظاهري لم يمتد إلى سلوكنا وأفعالنا أبداً، فقد دعانا إلى العلم فجهِلنا، وإلى أن تكون الحكمة ضالّتنا فأضليناها، وإلى أن نتراحم فتراجمنا وصرنا شِيعاً يضرب بعضها رقاب، بعض وكل ضارب يضرب محتمياً بحديث منسوب للنبي، نهانا عن الظلم فصار لنا شرعة، وأمرنا بتوقير الكبير فعبدناه من دون الله
ربما يكون هذا الاستطراد قد أعطاك فرصة لتفكر في إجابة للسؤال الدانماركي المفترض والذي لو واجهك فجأة فإنك بالتأكيد لن تجد سوى إجابة تلقائية عليه هي أننا أصبحنا على مانحن عليه من ضعف وذلة وهوان لأننا كما قلت قبل ذلك وأقول مراراً وتكراراً ندعي أننا نحب نبينا لكنه حب ظاهري لم يمتد إلى سلوكنا وأفعالنا أبداً، فقد دعانا إلى العلم فجهِلنا، وإلى أن تكون الحكمة ضالّتنا فأضليناها، وإلى أن نتراحم فتراجمنا وصرنا شِيعاً يضرب بعضها رقاب، بعض وكل ضارب يضرب محتمياً بحديث منسوب للنبي، نهانا عن الظلم فصار لنا شرعة، وأمرنا بتوقير الكبير فعبدناه من دون الله، أمرنا أن نزوج بناتنا لمن نرضى دينه وخلقه فلم نعد نزوجهن إلا لمن يرضينا ماله ونسبه وإن قل دينه وانعدم خلقه، نفى صفة الإيمان عمن يبات شبعان وجاره إلى جنبه جوعان وهو يعلم، فصرنا نحرص على ألا نعلم، تُنفق الأموال بالملايين تحت أقدام الراقصات وعلى موائد القمار ولتأمين مواكب الحكام، بينما ينتحر الفقراء مضحّين بكل شيء خجلاً من أسئلة عيون أطفالهم، يسرق فينا الكبير فلا تُشاكه شوكة، ويسرق الصغير فتنشر صوره في صفحات الحوادث تشهيراً وتجريساً وعقاباً، نقيم الحدود فقط على من يدعو للخروج على الحاكم والأخذ على يده، بأسنا بيننا شديد، وذكرنا خافٍ بين الأمم، أصبحنا عالة على الدنيا، وحقل تجارب لأقويائها وهُنّا على أنفسنا فهُنّا على الناس، أكبر علمنا الدنيا ومبلغ أملنا انقضاء اليوم دون خسائر وغاية رغبتنا أن يكفينا الله بطش حكامنا بنا، تسلط علينا حكامنا بفضل علماء يجرون سنة نبينا على ألسنتهم فيكتمون منها ماشاؤوا ويجهرون منها بما شاء حكامنا، تنطبق عليهم نبوءة نبينا عليه الصلاة والسلام عن أناس سيأتون يقرأون القرآن لايجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.
سيستمع الدانماركي الذي ستقول له كل ذلك بإهتمام اسكندنافي محايد بارد، ثم سيقول لك: "طيب لماذا لاتتبعون تعاليم نبيكم أولا ثم تغضبون من أجله"، عندها لو كان لديك ضمير فإن أول رد فعل لك سيكون أن تعلن اعتذاراً صادقاً له ولكل مواطني الدانمارك ودول أوروبا بل ودول الكرة الأرضية، بأننا ظلمناهم عندما طالبناهم باحترام نبي كريم لم نسع يوماً لأن يعرفوا عنه شيئاً، ولم تنفق حكوماتنا التي تهيج مشاعر الجماهير الآن مليماً من أجل التعريف برسالته وسماحته وعدله ورحمته، بينما تنفق الملايين على أوبريتات النفاق وحفلات الموالسة على أساس أن العالم محتاج لأن يعرف سير وبطولات حكامنا الذين لم يورثونا إلا الخيبة والفشل أكثر من سيرة سيد الخلق ورسول الإنسانية.
علينا أن نعتذر للدانماركيين أننا يمكن أن نأخذ العاطل بالباطل فنأخذهم جميعا بجريرة بعض منهم، حتى أن أحداً منا لم يتألم عندما نشرت صحفنا قبل أيام أن 43 دانماركيا رفضوا الخروج من المطار إلى فندق بعد أن تعطلت طائرتهم إلا في حراسة مشددة، بينما كان ينبغي أن نقتدي بنبينا ونكرم وفادتهم لنريهم أنه حتى لو تطاول جاهل منهم على نبينا فإن ذلك لن يضره شيئاً، وأن هذا الاستهزاء لو حدث أمام النبي صلى الله عليه وسلم لتعامل معه كما تعامل مع ذلك الإعرابي الكافر الذي دخل إلى المسجد وسط تجمع النبي مع أصحابه وقام بالبول في المسجد فهمّ به الصحابة ليقطعوا عنقه، فنهرهم الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً: "لا تقطعوا بولة أخيكم"، ليضرب أرفع مثل على التعامل الراقي المتحضر مع الجهل والاستهزاء وتحدي المقدسات، وهو مثل استمده من وصية الله تعالى له في قوله الكريم: "ولايحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً" ـ سورة آل عمران 176 ـ .
هل نكون صادقين مع أنفسنا فنوجه هذا الإعتذار لنستحق احترام العالم ونلفت إنتباهه بشكل حضاري لديننا ونبينا الكريم، ثم نقف مع أنفسنا وقفة صراحة نخجل فيها من دفاعنا عن نبي أغلب مافي حياتنا يسير عكس تعاليمه، ونرفض أن يتاجر باسمه فاسد أو ظالم أو موالس أو لص بنوك أو مغتصب سلطة أو شيخ سلطان. هل نفعلها؟، أشك لكني أتمنى أن نكون على مستوى قوله تعالى في سورة المائدة ـ آية رقم 76 ـ "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس". وإذا كنا نشهد أن نبيه عليه صلاة الله وسلامه قد بلّغ الرسالة وأدى الأمانة، فهل بلغنا نحن وأدينا؟
(2)
كنت أظن أن الناس في بلادي سيتنبهون إلى أننا عندما دعونا من قلوبنا أن يهلك الله الدانمارك وشعبها ويجعلهم عبرة لمن يعتبر، شاء الله أن تقع علينا كارثة العبّارة الأليمة، ربما لأنه جل وعلا أراد أن ينبهنا إلى أن ما أصابنا من مصيبة فبما كسبت أيدينا، وأن عدونا من أنفسنا، وأننا عندما هان لدينا الإنسان هُنّا على كل بني الإنسان، وأن معركتنا في الداخل وليست في الخارج، لكن مع الأسف لم يتنبه أحد لكل ذلك، بل أخذت رسائل المحمول والإيميلات تدعو لصيام الخميس الماضي للدعاء على الدانمارك وأهلها لكي تحل بهم مصيبة، ولم يأت أحد بسيرة الدعاء على من تسببوا في غرق الفقراء في المالح وأفسدوا في الأرض بعد إصلاحها.
فتاة اسمها سالي اتصلت ببرنامج (القاهرة اليوم) مساء الأربعاء وقالت: "يا جماعة بكره صيام يا ريت ندعي إن ربنا يرجّع ميدو يلعب يوم الجمعة"، بالطبع لم تكن هذه زلة لسان من مشجعة متحمسة بقدر ماكانت تعبيراً عن ملايين ممن يدعون غيرتهم على الرسول بالامتناع عن شراء الزبدة الدانماركي واستبدالها بالزبدة الهولندي، مع الحرص على ألا تشغلهم متابعة تطورات المقاطعة عن تطورات الماتشات ولا عن الحرص على الاتصال بالبرامج الفضائية للعن الدانمارك واللي يتشدد لها، على اساس أن ذلك كاف لحجز مكان في أعلى عليين.
للأسف لا تستطيع لوم هؤلاء وأنت تعلم أنهم قد شاهدوا على الفضائيات كل علماء المسلمين يتكتلون لتسخين الأجواء في أعلى مزايدة سياسية تمت منذ سنين، اشترك فيها كل المشايخ متطرفوهم ووسطيوهم ومهادنوهم، وإذا كانت فجيعتنا في المتطرفين والمهادنين كبيرة وقديمة، ففجيعتنا أكبر وأقسى وأمر في "الوسطيين"، فقد كنا ننتظر رؤيتهم الشجاعة والوسطية في مواقف ملتبسة مثل هذه، لكنهم آثروا أن يزايدوا على غيرهم، إما خوفاً من اتهامهم بالتفريط في أمر جلل كهذا، وإما لظنهم الخاطئ أن هذه فرصة سانحة لاستثمار "صحوة هذه الأمة"، فلما خرجت الجماهير الغاضبة لتحرق وتضرب وتخرب، أخذوا يقولون لا لم نقصد هذا كنا نتحدث عن الغضب الإيجابي السلمي، كأنهم لايعرفون الجماهير التي يتحدثون إليها، ولايعرفون أن غضبها على النبي عليه الصلاة والسلام سيغذيه غضب أكبر على أحوالها المعيشية المتردية وحياتها التي تشمت الأعادي وأن هذين الغضبين لو اشتعلا واشتبكا سيحدثان مالاتحمد عقباه على الإطلاق، وقد كان".
...
نكمل غداً بإذن الله.