حضورُ الكتاب وغياب القارئ
عزيز أشيبان
من المفارقةِ أن يصبح الكتاب متاحًا ومتوّفرًا بفضل حسنات التكنولوجيا والإنترنت، وينتشر بسرعةٍ ليصل إلى أماكن متفرقة من بقاع العالم، وأن تتواتر المعلومات وتتدفق بسرعةٍ قياسية يصعبُ معها مواكبةَ كلّ ما يُنشر ويُقدّم للقارئ، وفي نفس الوقت يلقى الكتاب الإعراضَ والنفورَ إلى درجةِ التهميش والهدم. أتحدّث هنا، عن المنطقةِ العربية، حيث لا يحظى الكتاب بالوقار الفعلي والاهتمام المستحق، ولا يسعى المواطن (لا القارئ) إلى البحثِ عن الكتاب رغم حضور هذا الأخير، وبوفرةٍ، بالقرب منه أينما حلّ وارتحل، وأحيانًا بتكلفةٍ مناسبةٍ ومعقولة.
في الماضي، كانت رحلة البحث عن الكتاب شاقة، ينفقُ القارئ في ثناياها ردحًا من الزمن وقدرًا من الجهد، ويبدي الصبر والإصرار، وذلك لعدم توفّر الكتب بكمياتٍ كبيرة، ناهيك عن ندرةِ بعضها وصعوبةِ الحصول عليها، في ظلّ أساليب التضييق من رقابةٍ وحظرٍ، لاعتباراتٍ سياسية، أو دينية، أو حتى أيديولوجية. كان الكتاب في حركةِ تنقلٍ مستمرٍ بين القرّاء بفعل عمليتي الإعارة والتبادل، يستشعر فيها القارئ اللذّة والمتعة والنشوة في القراءة مع وعيه التام بقيمةِ ما بين يديه.
أمّا اليوم، وكما قلنا سابقًا، يصل الكتاب في جغرافيات عربية عدّة، إلى وسطٍ ينبذه، ضمنيًا وفعليًا، ولا يستطيع الانصهار في ثقافةِ البلد وأداء وظيفته المقدّسة، بل ينفصلُ عن تلك الثقافة ويغيبُ عن نمطِ العيش الكائن، حيث ينحصرُ اهتمام السواد الأعظم من الناس في إشباعِ الغرائز الحيوانية المادية والعناية بالمظهر الخارجي مع الإعراضِ التام عن تغذيةِ العقل وتقوية ملكاته. كثيرة هي المؤشرات الرسمية، وغير الرسمية أيضا، التي تُحيل على هذا الوضع البئيس والمخزي. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، نسبة القراءة، نسبة بيع الكتب، نسبة النشر، حجم إنفاق المواطن على الكتاب، دخل الكاتب من المبيعات، وعدد المكتبات حسب عدد السكان. وفي حضورِ مثل هذه النسب المخزية، نبقى في غنى عن البحث والحديث عن النوعي، لأنّ الوضع لن يزداد إلّا قتامةً وسوداوية.
ثمّة إعراض تام عن تغذيةِ العقل وتقوية ملكاته
في معظمِ العواصم العربية، تُنظّم المعارض السنوية للكتاب، وتُرفع الشعارات، وتتباهى بعض الجهات الرسمية بنجاحِ التنظيم وتدفق آلاف الزوار لتعم الحركة ويحضر الكتّاب وتُنظّم حفلات توقيع آخر الإصدارات.. وكلّ هذا أمرٌ جميل. لكن، هل حقًا تؤدّي تلك المعارض دورها الطبيعي وتتناغم مع ماهيةِ تنظيمها؟ أم هي فقط للتباهي، مثلما يفعل ذاك الشخص الذي يتباهى بامتلاكِ خزانةٍ منزلية، لكنه لا يدنو منها أبدًا، وحتى التصفح لا ينال حظًا من وقته؟
نميل إلى القول إنّ جذور منحى الإعراض عن الكتاب تنغرس وتتفرّع على محاور متعدّدة ومتداخلة تجعل من الأزمةِ بنيوية الطابع ومعقدة التناول.
أولًا، في غيابِ الشغف يصعبُ الانجذاب والإقدام، إذ يُؤسّسُ الشغفُ على الحبِّ العقلاني الذي يكتسب بعد مجاهدةٍ كسل النفس وتقلبات المزاج واستدامة التحفيز من خلال تنشيط التحفيز الذاتي. نتحدث في هذا المقام عن حبٍّ يُكتسب بالعملِ والمثابرةِ والصبرِ والوعي المسبق بأهمية ما يُرجى بلوغه حتى يتحقّق مستوى التلذّذ والانتشاء.
ثانيًا، يستقرُ الكتاب في أسفل سلّمِ الأولويات (إن وُجِدَ أصلًا بينها)، ممّا يعكس حقيقة افتقاد الوعي بأهميته وطغيان الجهل كثقافةٍ ونمطِ عيشٍ. كيف إذن للاستعداد النفسي والذهني لعمليةِ الإقدام على الكتاب أن يرى النور في ظلِّ قتامةِ الوضع وسطوة الجهل؟
يستقرُ الكتاب في أسفل سلّمِ أولويات المواطن العربي، ممّا يعكس حقيقة افتقاد الوعي بأهميته وطغيان الجهل كثقافةٍ ونمطِ عيش
ثالثًا، حينما تختار الحكامة القائمة خيار الجهل والرداءة من أجل تحقيق توازن مقاربة الأمن القومي واستدامة الوضع القائم، من الطبيعي أن تصيب منظومة التربية والتعليم مظاهرَ التشوّه والتشويه والقصور والتضليل، ويبتعد المجتمع عن المعرفة والتنوير والنور الذي يجد نواته الصلبة في الكتاب.
رابعًا، للوالدين دور حيوي في زرعِ حبِّ القراءة في نفسيةِ الطفل منذ سنٍ جد مبكرةٍ، عبر مواكبته في قراءةِ بعض القصص القصيرة أو ترديدها على مسامعه، فتغدو العملية طقسًا يوميًا عاديًا. غير أنه مع توغل الجهل ومكابدة الوالدين للأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي يئن تحت وطأتها عموم الناس، تغدو العملية ضربًا من الطوباوية والخيال.
وفي النهاية يمكن القول، إنّ الكتاب يبقى مقدّسَ القيمة والوظيفة والرمزية، ممانعًا ومقاومًا لمحاولاتِ التبخيس والتضليل والحذر، إلى أن ينتصر ويسطو وتسطع منه أنوار المعرفة والعلم والعدالة، وتسقطُ جنود الجهل والجهالة، لتنال أبديةَ اللعنة والخزي والعار.