حلّاج فلسطين... كلاهما على درب الجلجلة
حفر الرسّام الفلسطيني الراحل مصطفى الحلّاج صرخة شعبه على وجه العالم، وأعلن خلاص الرّوح عبر الفن الذي شكّل عالمه الإبداعي، كما كان شاهداً على رحيله، إذ مات محترقاً في مرسمه الذي لم يكن مرسماً فحسب، إنّما كوناً لامتناهياً لتشكيلات الألم النبيل في شتاته وغربته، كوناً اختزل به الحلاج حدود العالم وخرج به عن شروط المكان والزمان، ليكون حالة فن متماهية مع مطلق الفكرة، الفكرة التي ضمنت له خلوده، وصيّرت أوجاعه ألماً نبيلاً سامياً.
نعم، يسمو الألم حين يستحيل فناً ويتخذ ثيمة الإبداع، فلطالما حضرت فلسفة الألم في عالم الفن الإنساني على اعتبارها وسيلة سامية للخلاص، وحالة انفلات حر من محاكمات الواقع صوب فضاء العري الكامل للوجع.
لنكون مع حلاج فلسطين في حضرة الألم النبيل الذي صيّر الوجع المكدّس فينا إلى فكرة، في هذا العالم الذي فرض على جسد المقدسي ترخيصاً مفتوحاً للموت، إلّا أنّه على الضفّة الأُخرى من العالم، حيث الفن يتخذ صفة المقاتل وملامح الثائر ينبلج أبداً أبيض، أبداً خالداً للدم الفلسطيني، هذا ما حاول الحلاج أن يقوله عبر سكاكين الحفر، وهكذا حوّل الحفار الفلسطيني المنفى والشتات إلى مساحة بيضاء أسّس فيها عالمه الفني الخاص، فكان عالماً هارباً من ضيق المسميّات الملتصقة باللاجئ، إلى أفقٍ يتسع للصرخة ويحمل عن خطى المتعب ثقل الفكرة، صوبَ فضاءٍ يصلح لأن يكون مساحة مسطحة لحفرياته التي شكّلت فيما بعد ملامح الهوية البصرية الفلسطينيّة.
تمكّن الحلاج أن يخلق للوحاته بعداً وجودياً حيّاً، حيث يمكن لكلّ متأمّل أن يسمع صوتاً عميقاً ينبعث من داخله ويحاكي الوجع الفلسطيني
في كلّ مرّة تتأمل فيها حفريات الحلاج تشعر بأنّ الحفر على الدم أولاً قبل الحجر، وكمن يحفر في وجه العالم صرخة التراب، استطاع الحلاج مسرحة الأسطورة الفلسطينية عبر فنَّه مخلدّاً في عقل العالم مقولة إنَّ "الفلسطيني يموت كي يحيا".
يمكن لمتأمل تلك الجدارية الموسومة بــ "يوم أسود آخر" أن يقف عند فلسفة الحلّاج الوجودية، حيث يستنطق الحلاج عبر اللون ونقيضه، الذي يرمز إلى الحياد والاتساع، فكرة اقتصاد الفلسطيني في السلام والعدل والحرية بفعل شروط القوة المضادة عند الآخر.
وقد تمكّن الحلاج من أن يخلق للوحاته بعداً وجودياً حيّاً، حيث يمكن لكلّ متأمّل أن يسمع صوتاً عميقاً ينبعث من داخله ويحاكي الوجع الفلسطيني، صوتاً بلونين اثنين، أسود في سورياليته وأبيض في صوفيته.
هكذا يأخذنا الحلاج في رحلة تضاد متكاملة ما بين صوفية هائمة في عالم المطلق الأعلى، حيث تستريح الروح في رحلة خلاصها، وسورياليّة غائصة في عوالم الداخل حيث تراكمات الإنسان المشتّت في مخاوفه وخيباته وانكساراته وأحزانه.
طوّع الحلاج الفن ليرسم ملحمة فلسطين في ذاكرة العالم، ولأنّ القصة المقدّسة أكثر عمقاً ووجعاً، ولأنّ العالم ما برح يسجّل مواقف باردة اتجاه الموت الجماعي الضال، اختار الحلاج لغة لا مرئية وفناً عابراً لحدود المنطق، ليخبرنا أسطورة "الفلسطيني الذي مات لكي يحيا".