حملات الدعاية الغذائية.. أزمة أخلاقية أم ترويج اقتصادي؟
أظهر تقرير مؤشر هدر الأغذية الصادر عن الأمم المتحدة أن عائلات وشركات رمت طعاماً بقيمة تبلغ أكثر من تريليون دولار، بما يعادل مليار وجبة غذائية!! في حين أن 800 مليون شخص يعانون الجوع في العالم، وأضاف أن أكثر من مليار طن من المواد الغذائية، أي حوالي خمس المنتجات المتاحة في السوق أهدرت عام 2022 معظمها من جانب أسر بما يعادل مليار وجبة يومياً.
ثمة هوة كبيرة بين الأرقام الأممية وبين الواقع، وليس المقصود هنا أن الأرقام غير حقيقية، بل إن صحتها لم تغيّر شيئاً على مستوى العالم، ربما يكون من المؤكد أن أعداد الجوعى قد ازدادت خلال عامين، لكن ومع زيادة الطلب والاحتياج إلى الغذاء من يحاسب من؟ ومن يعين من؟ وهل توجد خطط بديلة أو إجراءات مرسومة وحاسمة ليس من أجل وقف الهدر فقط، بل من أجل تأمين الطعام لمستحقيه.
إن نظرة عامة إلى سوق الإعلانات يظهر مدى فجاجة دعايات الطعام المعروضة أو المعلقة في الشوارع وقسوتها، صور نضرة، ملونة وغزيرة، لكنها فاقعة وتجرح القلوب قبل العيون.
من المؤسف جداً أن تقف امرأة جائعة تحت لوحة إعلانية كبيرة لأطعمة مرتبة بعناية وأناقة، تقف هناك لتطلب طعاماً أو ما يتيسر من نقود لتأمين وجبة صغيرة لها أو لأطفالها، والأكثر مدعاة للأسف والألم أن يشير طفل إلى نوع من البسكويت في لوحة إعلانية عملاقة ومغرية ليطلب من أمه شراء قطعة منها، وربما تسأل طفلة أخرى أمها عن اسم محتويات إعلان غذائي آخر.
والأسف محض مشاعر اهترأت ولم تعد تعني شيئاً لقوافل الجوعى المتزايدة عدداً واحتياجاً.
من المؤسف جداً أن تقف امرأة جائعة تحت لوحة إعلانية كبيرة لأطعمة مرتبة بعناية وأناقة، تقف هناك لتطلب طعاماً أو ما يتيسر من نقود لتأمين وجبة صغيرة لها أو لأطفالها
بالأمس كنت مدعوة إلى مائدة إفطار، توفرت خمسة أنواع من الوجبات الغذائية على المائدة، حساء، سلطة، فول مقلى، أرز بالبرغل مجلل بالبصل المقلي، بما يصطلح عليه (مجدرة رز) ونوع واحد من الحلويات المنزلية.
لم تعتذر صاحبة المنزل عن شح الموجودات، لم تعتبره كافياً فحسب، بل كنزاً حقيقياً في ظل الأزمة المعيشية والغذائية التي تعصف بالسوريين، اللافت أنها كانت توزع بنفسها من كل نوع وبالتدريج على أطباقنا، لديها لاءات كثيرة لأنها ترهق الجيوب المفلسة أو على الأصح عاجزة عن اللحاق بارتفاع فواتير الحد الأدنى من الغذاء، لا للفتوش لأن أسعار الأعشاب مرتفعة جداً وبعبارة بنت البلد قالت (لاحقين على أكلها إجا الربيع)! لا للحلويات التقليدية لارتفاع أسعارها وللخلطات العجيبة والغريبة التي أضاعت النكهة التقليدية لتلك الحلويات، لا للحوم بصورة يومية كي تعين الأمعاء على الاسترخاء وكي تمنح وجبة اللحوم هيبتها النابعة عملياً من ندرتها. كانت تكرر عبارة: "بدو يخلص الأكل اليوم! أنا عاملة ع قدنا!". وبالفعل التزمنا جميعاً بتناول ما في أطباقنا بحسب إدارتها العنيدة لأزمة الغذاء وتهافت القدرة الشرائية.
إذا ما عرفنا أن المطاعم والفنادق مسؤولة عن هدر 28% من الطعام ومحال البقال والسوبر ماركت عن 12% نكتشف أن الهدر الأعظم تسبّبه الأسر! تخيلوا مليار وجبة مهدورة يمكنها إطعام مليار جائع وجبة يومياً، والعبء الأكبر يقع على عاتق الأسر وسياساتها الخاطئة التي تبدأ من شراء مواد أكثر من الحاجة وتنتهي بهدر الموارد مع الطاقة والجهود والنقود في حاويات القمامة.
إعلانات الطعام صناعة تبتغي الربح وهذا طبيعي لحركة الأسواق، لكنها على المقلب آخر تساهم في خداع الناس رغبة في أرباح أكبر على حساب جيوب الفقراء عبر الترغيب والترويج لبضائع باهظة الثمن، غير ضرورية إلا في الحد الأدنى، استهلاكية ومضرة من الناحية الصحية خاصة على الأطفال.
يبدو الوعي الفردي عاملاً مؤثراً وفاعلاً لمواجهة كل هذا التخريب والهدر، وتبدو الحاجة ملحة أكثر إلى ضبط الإعلانات وتوجيهها نحو أداء اجتماعي أولاً يحقق بعض الربح، وليس أداء ربحياً فقط يطيح كل مكونات الأمان الغذائي والاقتصادي والمجتمعي.