حين جلست كوزيرٍ في السينما
كنت تلميذًا في نهاية الإعدادي وقد أخذ ينبت على شفتي العليا شنبٌ خفيفٌ وأصهب كأشواك التين الهندي. ذهبت إلى سينما كوليزي كأيّ رجل محترم. حجزت تذكرة خاصة بالطابق العلوي لمبنى السينما: "تذكرة بالكون" كما تُدعى.
صعدت الأدراج كشخصية مهمة تاركًا أسفل القاعة للحثالة و"المشمكرين". البالكون كان بهيًّا. كراسيه مرتبة من فوق إلى تحت ككراسي مسرحٍ روماني. رائحته نظيفة، وعدد الذين حجزوا تذاكرهم أقل، كما يبدو عليهم الوقار أيضًا. لاحظت أنّ هناك كراسي توجد في الأمام شكلها ومضمونها أفضل من الكراسي التي في الخلف، وقد فصل بينها وبين هذه الأخيرة ممرٌّ فقط. بدت تلك الكراسي جذابة أكثر وعددها في المجمل لا يتجاوز الأربعين، كما لو أنّها مخصّصة للوزراء والشخصيات المهمة دون غيرها. لاحظت أنّها غير ممتلئة بالجالسين، مقاعد كثيرة، شاغرة. استغربت ذلك الأمر. تقدّمت وجلست على أحدها كوزير، سعيدًا بكلّ تلك الفخامة، بينما تكدّس أغلب روّاد الطابق في الخلف كالشعب.
انطفأت الأضواء وبدأ الفيلم. فيلم ساخر. القهقهات تأتي من كلّ مكان، قهقهات عالية. قهقهت أنا أيضًا قهقهات مضاعفة، خصوصًا أنّ جلستي كانت وثيرة للغاية.
مرّ نصف ساعة تقريبًا. انتبهت إلى شخصٍ يحملُ مصباحًا ويراقب تذاكر الجالسين في المقاعد الأمامية التي أجلس على أحدها. وقف مدّة أطول أمام مراهق اقتعد كرسيًّا شرفيًّا إلى جانبي، حدّق جيدًا في تذكرته، وهي مضاءة بمصباحه الكاشف الصغير وسط ظلام القاعة، ثم صفعه صفعة مفاجئة وصرخ فيه: هذه تذكرة بالكون وليست تذكرة لوج، انهض من هنا أيها الفأر.
عندما تتلقى صفعة ما، ستشعر أنّ وطنك الحقيقي هو خدك، وأنك هُزمت دون شك
طأطأ المراهق رأسه وانسحب. لم أفهم شيئًا، ولم يبق أمامي مجال متسع للفهم. استدار المراقب ذو العضلات المفتولة ناحيتي وطلب تذكرتي. أضاءها بالمصباح ثم صفعني بخفة سينمائية متقنة قبل أن يرتدَّ إلي طرفي. دوّت الصفعة في أصداء مضاعفة بالعرضِ البطيء داخل القاعة، وتلتها قهقهاتٌ جماعية رهيبة آتية من كلّ مكان. لم أعرف هل كان سبب تلك القهقهات أصداء الصفعة التي تلقيتها أم مشهد ساخر من مشاهد الفيلم. ثم قال وهو يدفعني بشكل مهين كي أغادر اللوج (صف الكراسي الأمامية): اغرب من هنا قبل أن تأكل صفعة ثانية.
انسحبت إلى الخلف وجلست وسط كراسي الشعب غير الشرفية صاغرًا. لم أفهم ماذا حدث بالضبط، فأنا لا أعرف ماذا يعني هذا "اللوج"، لم أسمع به من قبل، ولم أجد بابًا يفصل بينه وبين الكراسي الأخرى، إنّها مصيبة كبيرة دون شك وغير مضحكة بالمرّة، لي على الأقل.
ظلّ خدّي يُوَزْوِزْ واكتحلت عيناي بدموع الضيم والرغبة في الانتقام، لولا أنّ عضلات المراقب المفتولة وأسلوبه العدائي الذي بدا متمرسًا على الصفع والركل كأبطال الأفلام، جعلني ألزم مكاني. بعد ذلك توالت القهقهات، وظللت أحسّ أنّ كلّ تلك القهقهات سببها الصفعة التي تلقيت وليس الفيلم. كان من المستحيل عليّ أن أركز في الفيلم بعد ذلك. لم يبق فيلمًا ساخرًا بالنسبة إليّ، بل فيلمًا تراجيديًّا رهيبًا، والبطل المهرّج بدا لي قاسيًا جدًّا وسخيفًا، وهو يواصل تهريجه غير المضحك دون أن يعير مُصابي اهتمامًا.
نهضت وانسحبت كصرارِ الليل وسط عتمة الصالة قبل أن ينتهي الفيلم ويشعلوا الأضواء كالفضيحة
حتى وإن فاز منتخبك الوطني بكأس العالم وتلقيت أنت صفعة مباشرة بعد إعلان فوزه فستؤلمك الصفعة أكثر مما سيفرحك فوزه الذي ستشعر أنّه لا يعنيك. حتى وإن ربح بلدك حربًا ضد بلد آخر وتلقيت صفعة في الشارع، فلن تستطيع الرقص مع المحتفلين، بل ستشعر أنّ وطنك الحقيقي هو خدك، وأنك هُزمت دون شك، إذ لم تستطع أن تعيد الصفعة صفعتين إلى صاحبها.
نهضت وانسحبت كصرارِ الليل وسط عتمة الصالة قبل أن ينتهي الفيلم ويشعلوا الأضواء كالفضيحة، فتصيرُ الصفعة مضاعفةً حين يحدّق الجميع في اتجاهي. خرجت من باب البالكون، نزلت الأدراج، سمعت قهقهات الحثالة في الصالة السفلى، شعرت كما لو أنّهم، هم أيضًا، رأوا الصفعة كما سمعوها، تمنيت لو أني اكتفيت بتذكرة وسطهم كالعادة.
خرجت من باب السينما مغتاظًا، حملت حجرًا وقذفته بحنقٍ شديدٍ في اتجاه جدارية الفيلم الكوميدي الرديء العملاقة المعلّقة على الجدار داخل إطار زجاجي ولُذت بالفرار، فقد كان ركضي سريعًا جدًّا كعدّاء، وكان في الغالب سلاحًا لا يستهان به.