حين "خاصمت" محمود درويش
"محمود درويش"، اسمٌ يثير شغفي لقراءة أيّ عبارةٍ كتبها أو أيّ قصةٍ أو مقولةٍ تختصّ به. شُغِفت بحبّه وأنا في الجامعة، رغم عدم قراءتي كلّ مؤلفاته، إلا أنّي كنت أتابعه في المقالات، وفي الجرائد، وعلى التلفاز. كانت صديقاتي يتحدثن دائماً عن إعجابهنّ الكبير بالشاعر العظيم، نزار قبّاني، لكونه "شاعر المرأة ونصيرها الدائم"، بينما كنت أتلذّذ بحبّي السرّي لشاعري محمود درويش، وإن كان هذا الحبّ "من طرفٍ واحد".
كنت في تلك المرحلة العمرية أعشق التفرّد، وأحاول الابتعاد دائماً عن حياة القطيع، سواء أكان ذلك في الأغاني، أم الأفلام، أم الكتب حينها. وحمدت ربي أنّ رفيقاتي لم يتعرّضن لعشقي الأزلي، وإلا كنت نفرت وسارعت بالهروب والابتعاد.
لم يدرك أصدقائي ما خفي عنهم، إذ لم يدركوا التوحد الكائن بين المرأة والوطن في أشعاره، لكونهما رمزَي الخصب والعطاء والسكن "أنثروبولوجياً". كذلك أبدع الشاعر في إظهار أنوثة المرأة، معتبراً أنها اللغة ذاتها، وذلك من خلال قوله: "لولاك لانحرفت لغتي عن أنوثتها"، فحين تكون اللغة أنثى، فإنها تحمّل في طياتها الكثير من الدلالات، من عطاء ومحبة ورقة وخصوبة.
سرّ جمالية عبارات محمود درويش يكمن في غموضها وسحرها الخاص
مرّت الأيام وازداد حبّي وتعلّقي بشاعري الكبير، إلى أن جاء اليوم الذي لن أنساه في حياتي. كنت قد سمعت أنّ شاعري المفضّل سيأتي إلى سورية، وقد عزمت على حضور أمسيةٍ شعريةٍ سيعقدها في مدينتي حمص. ملأت السعادة كياني، وشعرت بالقشعريرة تتسلّل إلى جسدي منذ سمعت بقدومه إلى مدينتنا. خطّطت وأصدقائي للذهاب إلى تلك الأمسية، ورسمت في مخيلتي الأحلام الكثيرة لتلك اللحظة التاريخية، لكنّ الحظ لم يحالفني، وتحوّل هذا اليوم إلى أتعس يومٍ في حياتي، إذ كنت أقطن في منطقة تدعى "حمص الجديدة"، لكنّها بالرغم من جماليتها وحداثتها، كانت نائية وبعيدة وغير مخدّمة بالسير، ولم يحالفني الحظّ بأن أجد أحداً من أهلي أو أخوتي أو أقاربي يتطوّع للذهاب معي، لكون الأمسية ستأخذ وقتاً متأخراً، وليس بمقدوري أن أعود فيه إلى المنزل بمفردي. أذكر أنها كانت أسوأ ليلةٍ قضيتها في حياتي، أكل الندم أصابعي، كيف أضعت من يدي فرصة العمر؟ جلست في تلك الليلة أجمع العبارات التي أحبّها له وأدونها على دفتر ذكرياتي والدموع تنهمر من عينيّ المثقلتين بالنعاس. ومما زاد الطين بلّةً، أنّ شاعري العظيم توفي بعد تلك الأمسية بفترة ليست بالبعيدة، فاختنق حلمي برؤيته مرةً ثانيةً قبل أن يولد. للشاعر الكبير محمود درويش مكانةٌ في قلبي، كلماته تلامس روحي، صوته يأخذني إلى عوالم وخيالات ليس بمقدوري أن أصفها.
أحاول أحياناً عند قراءتي لسطوره أن أغوص في التفاصيل، وأتعمّق بالأفكار، لأكتشف أنّ روعة تلك العبارات، ببقائها دونما شرحٍ أو تفصيل. فهي جميلة ورائعة هكذا ببساطتها أحياناً، وبتعقيدها أحياناً أخرى، ومن تلك العبارات: "لو يذكر الزيتون غارسه لصار الزيت دمعاً"، أو "لا نريدُ من الشيء إلّا شفافيَّةَ الشيء: حدِّقْ تَرَ الوردَ أسوَد في الضوء. واحلُمْ تَرَ الضوءَ في العتمة الوارفةْ"، أو "إن أردت الوصول إلى نفسك الجامحة، فلا تسلك الطرق الواضحة"، أو "أعدي لي الأرض كي أستريح فإنّي أحبك حتى التعب".
كلّها عبارات أحبّها وأحفظها في دفتر مدوناتي، دون محاولة مني لفهمها، فسرّ جمالية عبارات محمود درويش يكمن في غموضها وسحرها الخاص. كنت أشعر باللذة عند سماعه، وبالانجذاب التام عند حضور أمسيات شعرية له على التلفاز أو الجوال. أراقب أنامله وهو يحرّكها وفقاً للحالة، تأسرني ملامح وجهه، وتقاسيمه التي تفيض بالحبّ والخير، أما صوته الذي يعلو عند انفعاله وحديثه عن المستعمر، ليعود وينخفض عند وصفه الحبيبة، فقد كان يدخلني عوالم اللامرئيات، فأحلم وأدخل في غيبوبة اللاوعي، إلى درجة أنّي كنت أشعر بالخدر يتسلّل إلى جسدي، حتى أخال أحياناً أنّي أصبت بالشلل.
كتكفير عن ذنبي تجاهه، عاهدت نفسي أن أستمع لأشعاره وفيديوهاته التي كنت أتجنبها لمدة عامٍ كاملٍ، كلّ يوم، وقبل النوم، كوصفة روشتةٍ من طبيب
بعد تخرجي من الجامعة، قرّرت ألا أشاهد أي أمسيات لشاعري المفضّل، بعد أن شعرت بالكآبة تغمر كياني عند سماعها، وبالانجذاب المرضي لسماعها بالرغم من هذا الشعور. وبالفعل، عاهدت نفسي على أن ألجأ إلى القراءة بدلاً من سماع مقاطع الصوت ومشاهدة الصورة كيلا أصاب بتلك الحالة. وبالفعل، استمررت بذلك لأكثر من عام، ظناً مني أن صوته هو الذي "يسبعني" ويجرفني بتياره دون مقدرة مني على المواجهة حتّى، لأكتشف فيما بعد، أنّ الحرب وآثارها السيئة علينا، وهجرتنا من منزلنا، وحالتي العاطفية المزرية آنذاك، هي السبب بذلك، وأنّ كلّ اتهاماتي لصوت شاعري باطلة زائفة. وتأكدت من ذلك، عندما كنت في باص البولمان وكنت سعيدةً جداً بحصولي على الوظيفة التي كنت أرغب فيها، عندما وضع السائق أمسيةً شعرية لمحمود درويش. لم أتأثر ولم أغرق بالحزن والكآبة كالعادة، بل على العكس ازداد فرحي وسروري بظهور شاعري المفضّل في هذا اليوم السعيد والجميل. استمتعت بكلّ لفظٍ لفظه، وكلّ عبارةٍ ألقاها زعزعت من كياني وزادت من شروقي وابتهاجي، لأكتشف أنّ الحالة العاطفية والاجتماعية هي التي تلعب دوراً في الحالة النفسية، ولا علاقة للأشعار والكلمات المؤثرة بذلك.
وكتكفير عن ذنبي تجاهه، عاهدت نفسي على أن أستمع إلى أشعاره وفيديوهاته التي كنت أتجنبها لمدة عامٍ كاملٍ، كلّ يوم، وقبل النوم، كوصفة روشتةٍ من طبيب.
كم أنت رائع يا شاعرنا العظيم! كل كلمات المديح لا يمكن أن تصفك. كم أتمنى أن يوجد من أمثالك في أيامنا هذه، لكنّك الجوهرة الثمينة الباهظة، والكنز العظيم الذي لن يكرّره الزمن.