حين يكون الإخفاء تعذيباً... ليست سورية وحدها

03 يناير 2025
+ الخط -

منذ فقد التعذيب العلنيّ ردعيّته المبتغاة على يدّ صانعيه، خاصّة على أجساد أهل التمرّد والثورة، أو حتى مخالفة السلطة على أيّ صورةٍ، وتحوّل الإخفاء في ذاته قصدًا، لا لكسرك كسجين فقط (وهو يفعل لا شك) إنما لتنسى وتُنسى، ويحصل هو على مساحته المطلقة للفعل دون مخافة عاقبة أو خشية ترميز... تفجّرت ذكريات ومشاعر دفينة (أدفنها قسرًا خشية مواجهتها، ولا استطاعة) مع انتشار مقاطع وصور المعتقلين المحرّرين من صيدنايا وغيره من السجون السورية، تمامًا كما تفجّر وجع، في ذات الأماكن التي تأذّت وقت أن كنتُ معتقلًا، لا لتماثل في الجريمة حجمًا وعمقًا وامتدادًا زمنيًا، بقدر ما هو تشابه "النوع"، وربما الغرض.

عشرات المشاهد الحيّة كادت تفجّر ذهني وصدري وهي تتداعى عليّ بلا فرصة لالتقاطِ الأنفاس، ولم يوقفها هروبي من المشاهد والشاشات، فقد انفتح الجرح وما كان كان، لكن مشهدين (لم أشاهدهما وإن عايشتهما) ألحّا ليومين بلا توقّف، حتى وددت لو أتخفّف منهما، بالحكي ربما، أليست "الهواجس كالفراشات، يقتلها الوجود في بؤرة الضوء"؟

كنت في معتقل بدر، في السنة الأخيرة قبل خروجي، وكانت السنتان الأخيرتان تكثيف جرائم العقد كلّه، ومع الانتقال لبدر (السجن الذي تحتفي به الداخلية ووسائل الإعلام باعتباره طفرة حقوقية وإنسانية غير مسبوقة)، كانت العودة للسجن القديم بطره في ذاته أمنية لا تُدرك (لا مكانًا فقد هُدم لتباع أرضه، ولا ظروفًا فقد انتقلنا ليتم الإجهاز علينا)، والحكي عن الحال هناك له موضع آخر.

قبل الخروج ببضعة أشهر، وكان كلّ شيء ممنوعًا، بما في ذلك الملابس والأغطية والفراش، وحتى غالب الأدوية وما يكفي من الطعام، أراد ضابط أمن الدولة (أحمد فكري/وليد الدهشان) عقابي على تمرّد داخلي مُعتاد، لكنه أوجعهم هذه المرّة أكثر من غيرها على ما يبدو، ولم يشأ التورّط مباشرة في اعتداء أو تعذيب كما سبق أن فعل، فلجأ للحيلة القديمة الوسخة، نقلي لعنبر معتقلي داعش، وهم سيتكفّلون بالأمر، كما سبق أن فعلوا غير مرّة؛ اعتداءات ومحاولات قتل خلّفت إصابات وجروحًا وكسورًا بعضها باقٍ حتى اليوم، وهي أداة تصفية "مزعجين" معتادة لدى ضباط أمن الدولة في الداخل، وينتهي الأمر بتقرير "خناقة مساجين".

فور دخولي تريّض العنبر، ناديت بصوت يسمعه الكلّ لأعرّف بنفسي وسبب وجودي وأطلب منهم عدم التورّط في صراع كهذا والاستخدام غير المباشر من قبل سجّانيهم، ووجوب الوعي بحقيقة الخصم في اللحظة، وتأجيل خصوماتنا لخارج المعتقل، إلى آخر الخطاب المكرّر الذي أردّده في مواقف مشابهة، وكثيرًا ما يؤتي ثماره.

تحوّل الإخفاء في ذاته قصدًا، لا لكسرك كسجين فقط (وهو يفعل لا شك) إنما لتنسى وتُنسى

بعدها سألت عن تصنيف الأدوار، وعن "العناصر" الموجودين بالعنبر (والعناصر بحسب تصنيف السلطة هم المعتقلون الأكثر أهمية أو الأشدّ خطورة، يُعزلون في الدور الأخير بعيدًا عن بقية المعتقلين، ولا يُسمح لأحد بالتواصل معهم، وأوضاعهم غالبًا ما تكون الأسوأ مطلقًا في كلّ عنبر أو قطاع، وكنت موجودًا في هذا التصنيف بطول السنين العشر التي قضيتها بالداخل)، فعرفت أنّ العناصر في هذا العنبر هم عدد من قادة الإخوان (محمد الكتاتني، محمود عزت، محمد وهدان، أحمد عبد العاطي، أحمد البيلي، والأستاذ حازم أبو إسماعيل)، وعلّة وجودهم في عنبر داعش هو الوجود في بيئةٍ "معادية" لانتزاع التعاطف كما حظر التواصل، والذي كان محظورًا حتى في صورته غير المباشرة كالنداء عليهم أو الإنشاد أو قراءة القرآن بصوت يسمعونه، مثلًا.

وناديت على الأستاذ حازم أبو إسماعيل، إذ كان الوحيد الذي ظننته سيتقبّل التواصل معي من حيث المبدأ، لم تكن ثمّة مشكلة شخصية بيننا وغالبًا كان الوحيد الذي لا يعتبرني "عدوًا"، وعمليًا كان الوحيد القادر على سماعي والردّ عليّ، ولو بمشقة بالغة.

حين ناديته، وبعدها بدقائق جاءني الرد، كان بكاءً مسموعًا، ووسط نشيجه صوت يقول "جزاك الله خيرًا، لن أنسى لك هذا الجميل ما حييت"، ويكرّر ذات الجملة مرات عدّة، تقطعه البكاء مسموعًا أو صامتًا، ليوضّح: لم ينادنا أحد منذ نُقلنا لهنا ولم يرد علينا أحد.

كان هذا هو الموقف الأوّل، ولأجله ظللت كلّ ليلة أستعيد ما أعرف من أخبار في مصر والعالم لأخبره بها، ويقوم هو في المساء بنقلها لرفاقه، ثم أصبحت أمازحه بأخبار فنيّة ورياضية، وتحوّل التواصل بعد ذلك إلى نقاشاتٍ جادة ومهمّة لأسابيع بين معتقل في تريّض العنبر وآخر في دواعي الدور الرابع، وبينهما عشرات الزنازين تستمع وتقوم بمداخلات وتطرح أسئلة (أو تشتم حتى، إذ لم يكن غالب كلامي ورأيي مريحًا لكثير من سكان العنبر).

أما الموقف الثاني، فكان أن استطعت التواصل عبر حلقاتٍ طويلة داخل السجن وخارجه مع بعض أسر الزملاء في هذا العنبر، لأنقل أخبارهم وأطمئنهم على أهلهم تطامنًا متبادلًا (رايح جاي)، وفي إحدى الرسائل المنقولة شفاهة نقلت للدكتور محمد الكتاتني أنّ بناته تزوّجن، وأنه جد لأحفاد أعمارهم سبع سنين وخمس سنين وثلاث، وبضعة أشهر، وأنّ إحدى بناته حامل وقت نقلي الرسالة، وأسماء أزواج بناته وأماكن إقامتهم أيضًا، كما أنّ أحد أبنائه معتقل الآن وقد تركه طفلًا، وكلّها معلومات لم يكن لديه عنها أيّة فكرة.

لم يكن في الموقفين تعذيب بدني كالذي تعرّضت له أنا أو شهدت تعرّض الرفاق والزملاء له بطول السنين العشر، ولم ألتقِ الرجلين أو أر وجهيهما وقت المواقف التي ذكرتها، ليرسخ تعبيرهما في ذهني بهذا الإلحاح مثلًا، لكن رغم ذلك كان الأمر مزلزلًا وما زال، وكنت أرتعد وأنا أنقل الرسالة وكلّ رسالة مشابهة (كأن طلب مني الأستاذ حازم أن أبلغ أهله ليغيّروا سكنهم، تجنبًا لمضايقات الأمن؛ فعرفت أنهم غيروه قبل ثماني سنين)، تمامًا كما أرتعد الآن وأنا أتذكّر.

لا أتخيّل كيف قضى الرجلان أيّامهما بعد أخبار كهذه، يتصوّر واحدهما وجوه أحفاده ويخلق مشاهد معهم في الحرية، ويحاول الآخر تخليق مشاهد بيت أسرته الجديد وهم فيه ليستدعيهم ويحلم بهم، كما يفعل السجناء بطيلة حياتهم السجنية، إلى أن يلتقوهم يومًا في السجن أو خارجه.

لكن وأنا في غمرة الارتعاد والحزن يصفعني خبر تقول فيه وزارة الداخلية إنّ سجن بدر استقبل وفدًا حقوقيًا لإطلاعه على التجربة الإصلاحية الفريدة بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان!