خضر عدنان... مقاوم حتى "الرمق الأخير" حرفيّاً
في معارك النضال والمقاومة، وفي حروب التحرير الوطنيّة، يختارُ كلُّ إنسانٍ السلاح الذي يستطيع حمله والقتال به؛ فمثلًا اختار غسان كنفاني قلمه وورقته، وحارب بالرواية الفلسطينية سردية إسرائيل كلها، فهزمها بعمره القصير جدًّا، ومولده الذي كان قبل مولد دولتهم المزعومة، حتى اغتياله الذي ظنّوه يضع حدًّا لانتشاره، فأزال الحدود عن اسمه وكلماته وصفحاته.
أما ناجي العلي، فاختار ريشته وكرّاسته، وبدأ فعل المقاومة، ينثر الألوان هنا وهناك، ويمتلئ كتاب القضية بشخبطاته، ويلِد من رحم فنه حنظلة، طفلًا لا يستطيعون اغتياله حين يغتالون صاحبه، وحقيقةً تطير على الورق، تعيش في ألف مكانٍ بمجرّد وضع بضعة خطوط متشابكة بأيّ قلم، من دون شروط ولا معايير، إلا مجرّد صبيٍّ "وُلد في العاشرة من عمره وسيظل دائمًا في العاشرة من عمره، ففي تلك السن غادر فلسطين، ثم حين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعدُ في العاشرة، ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء".. إلى أن اغتيل ناجي وبقي حنظلة.
أما يحيى عياش مثلًا، فهو رجل اختار دراسته وعقله، اختار هندسته وذكاءه، وعلمه وحساباته، وفهمه للتفاعلات الكيميائية، ليصنع موادَ يقاوم بها من أجل فلسطين، فيحرّر بلاده من خلال معادلات رياضية، ومواد يجدها في الأرض، وعند العطارة، لتصير في ما بعد أساسًا لترسانة ستُبنى بعده، إلى أن اغتيل وبقيت معادلته "سقف الباص الطاير" تُدرس في مناهج خاصة، لا تكون صفوفها الدراسية إلا داخل الأنفاق.
رعد حازم، وعديّ التميمي، وإبراهيم النابلسي، شبانٌ معاصرون، اختاروا سلاحهم أيضًا بالطريقة التي تحلو لهم، فشخبطوا على الجدران، وحملوا البنادق، ورسموا فلسطين بالطريقة التي يعرفونها، كلٌّ يجيد المقاومة بطريقةٍ ما، فكان هذا ما حاولوا ترسيخه طوال الوقت، هم وأصدقاؤهم، وقدواتهم الذين سبقوهم، وتلاميذهم الذين سيلحقون بهم.
الثأر يصير أكثر حرقةً واشتعالاً وأثراً حين يورّث من رجلٍ اغتيلَ ببطء والقيود تكبّل يديه
هو فرض عينٍ على كل فلسطينيٍّ أن يقاوم، وعليهِ فليختر من المخزن ما يلائمه، البعض يحمل سكينًا، والبعض يحمل شوكة، والبعض يحمل عصا، والبعض يحمل حجرًا، والبعض لا يجد ما يحمل، فيختار الوقوف بجسمه، درعًا يصدّ، أو جدارًا يفدي، أو غطاءً يساعد، والبعض لا يملك إلا جسمه، وتصريحات اعتقاله، فاختار أن يحارب بجوفه، بأن يجعله خاويًا من أيّ شيء، لا يأكل حتى يحقّق انتصارًا صغيرًا يضاف إلى أجندة هزائم المحتلّ، وهي حلقة في سلسلة طويلة يرجو بها إثقال كتاب الوطن بالأمجاد، التي تؤدي ذات يوم للمجد الأكبر.
خضر عدنان أيضًا، كان رجلًا يبحث عن السلاح الذي يقاوم به، عن الطريقة الممكنة التي يستطيع التصرف خلالها، فاختار الأخيرة، أو قل: ابتكرها، كان رائد مدرستها في فلسطين، فاعتقلته السلطة والاحتلال معًا 12 مرة، أضرب في نصفها تقريبًا، لنحو 250 يومًا متفرقات، منها ما جاوز الستين يومًا فكان حينها رقمًا قياسيًّا، ومنها ما شارف على التسعين يومًا، فكان تاريخ استشهاده في اليوم السابع والثمانين من المعركة، مقاومًا حتى "الرمق الأخير" حرفيًّا، ومنتصرًا بطريقة أخرى، يعرفها الفلسطينيون وحدهم، ويدركها الجميع في ما بعد، لأنّ الثأر يصير أكثر حرقةً واشتعالًا وأثرًا حين يورّث من رجلٍ اغتيلَ ببطء والقيود تكبّل يديه.