درعا والعودة بالزمن إلى لحظة الكرامة الأولى
منذ أن وضعت روسيا ثقلها العسكري لصالح نظام الأسد ضد الشعب السوري في سبتمبر/ أيلول 2015، دخلت الثورة السورية في نفق التراجع والانكفاء وبات التهجير القسري هو النهاية الحتمية والخيار الوحيد أمام مختلف البلدات والمدن السورية التي قارعت نظام الأسد والمليشيات الإيرانية وصمدت في مواجهة الحصار والتجويع في ظل خذلان عربي ودولي وفي ظل اللاشيء الذي قدمه المجتمع الدولي والأمم المتحدة لحماية الشعب السوري.
لم يكن التراجع والانكفاء سمة مرتبطة بالعمل العسكري وحده، النشاط الثوري بكافة أشكاله كان يتقهقر، تلاشت المظاهرات التي كانت عنوان المواجهة الأول مع نظام الأسد الدموي وساحة النزال من جنوب سورية حتى شمالها ومن أقصى غربها حتى أقصى شرقها والتي طغى فيها عنفوان السوريين العزل وشجاعتهم على رصاص بنادق الشبيحة وهدير عربات المخابرات الجوية وأمن الدولة.
ضاقت البلاد بما فيها المناطق التي كنا نسميها "محررة" حتى على كثير من النشطاء الإعلاميين والمدنيين الذين شكلت أصواتهم ومنشوراتهم وقصصهم على مواقع التواصل الاجتماعي جزءا من وجدان الثورة في قلوب كثير من السوريين، واستمر التقهقر حتى غابت صيغة الفعل المضارع عن سيرة معارك الثورة ورجولة الجيش الحر في مواجهة قائمة طويلة من الأعداء متعددي الجنسيات، وصار كل حديث او دردشة عن مناقب الثورة ورجولة أبنائها مرتبطاً حتماً بصيغة الفعل الماضي.
يفهم الأسد اليوم وحلفاؤه أن كل ما أنجزوه عسكرياً وأمنياً منذ تدخل روسيا العسكري في سورية وحتى يومنا قد فشل في فرض الخضوع للاستبداد
ليس سهلاً بالتأكيد أن تزيل كل هذا الركام من الهزائم والإحباط وانعكاساته على مشهد ومجتمع الثورة في سورية، لكن درعا التي خيبت ظن قيادة النظام وكثير من المحللين في مارس/ آذار 2011، تؤكد اليوم أنها قادرةٌ حين يعجز الآخرون، وفدائيةٌ أيضاً حينما يترددون.
وعلى الرغم من أهمية فهم المناخ الدولي والتقاطعات والتجاذبات التي تدفع روسيا -حتى اللحظة- إلى الامتناع عن تغطية هجوم النظام والمليشيات الإيرانية على درعا البلد، إلا أن البحث في ذلك ليس هو مربط الفرس في تفسير حالة النشوة التي نعيشها نحن أبناء الثورة السورية، لا أهمية تذكر -على الأقل الآن- للبحث في مواقف روسيا أو أميركا أو الجامعة العربية ولا قائمة طويلة من دول وأنظمة تتشدق بالحديث عن ضرورة مواجهة النفوذ الإيراني، في الوقت الذي تشيح وجهها عن درعا المحاصرة بسلاحها الخفيف ضد مليشيات ايران ومن خلفها نظام الأسد والذي يسعى بعض "أشقائنا" إلى التطبيع معه بحجة إعادة سورية إلى عمقها العربي.
الأهم من كل ذلك هو أن درعا في لحظة كرامة حقيقية وبقرارها الموحد الوطني وفزعة أبناء مناطقها المختلفة أشعلت مشهد الثورة مجدداً كما أشعلته في مارس/ آذار 2011، وعندما تشعل درعا البلد فتيل الثورة فإن فزعة السوريين لها حتمية بلا شك.
مظاهرات عديدة فزعة لدرعا خرجت في إدلب وريفها وفي ريف حلب الشمالي وفي دير الزور والرقة وهي مناطق تتوزع السيطرة عليها قوى مختلفة على كل الصعد، وهو ما يؤكد أن انتفاضة درعا تجاوزت حدود المحافظة لتسكن وجدان كل سوري حر سواء كان في مناطق سيطرة جبهة النصرة أو الجيش الوطني أو قوات سورية الديمقراطية.
يزداد إنجاز درعا على المستوى الوطني أهمية عندما تجاوزت حالة تعاطي السوريين مع انتفاضة درعا حدود التعاطف الإنساني والتخوف من مجزرة ووضع إرسال مساعدات إنسانية سقفا للمطالب، مشاهد فزعة رجال درعا ورفضهم التنازل لمطالب النظام من جهة ومشاهد رجولة أبنائها في سيطرتهم على نقاط جيش الأسد والمليشيات الإيرانية أزاحت سنين من مرارة الانكسارات والهزائم ومنحت السوريين فرصة الشعور بأنفسهم وبثورتهم مؤكدة اليوم بالفعل المضارع أن الثورة ما زالت على قيد الحياة مستمرة.
يفهم الأسد اليوم وحلفاؤه أن كل ما أنجزوه عسكريا وأمنيا منذ تدخل روسيا العسكري في سورية وحتى يومنا قد فشل في فرض الخضوع للاستبداد ورجاله خيارا وحيدا أمام السوريين، هذا يؤكد أهمية إنجاز درعا العظيم، والذي بات من أهم مكتسبات الثورة السورية منذ سنوات، والحفاظ على هذا الإنجاز لا يستدعي مطالبة أهالي درعا بما لا يقدرون عليه، هذه ليست دعوة للاستسلام وإنما دعوة لدعم مطالب أهالي درعا الذين يمثل بقاؤهم في بيوتهم ومناطقهم انتصارا على الأسد وحلفائه وإرادتهم في حشر الثورة في ادلب وحدها، وهي دعوة للنضج أيضاً موجهة لكل من يعتقد من السوريين أو غيرهم أن الثورة قد هزمت، وكما أعادت درعا مشاهد بطولات آذار 2011 نحن السوريين مطالبون أيضا بالاستمرار في الفزعة لدرعا بكل ما نملك.