دَيْنُ المُحرَّرين للأحرار.. فلسفة الوفاء بين غزّة وأخواتها
في الثامنة عشرة من عمره، أو في السابعة عشرة كان صديقاه، على أيّ حال لم يتخطَّ أي منهم العشرين عامًا، كانوا ثلاثة؛ جبريل جبريل ووائل مشة وطارق داوود، الفتية الذين حرّرتهم غزّة بدمائها، في صفقةِ التبادل بداية العدوان، وكان كلّ منهم أسيرًا بحكم نشاطه أو غيرته على أرضه، لم يكن أحدهم مجرمًا ولا قاطع طريق، وإنّما أشبال على طريق المقاومة، أوّل ما يرفضون الاعتراف به هو أعمارهم، فيتحمّلون ما تنوء به الجبال من المطاردةِ والاعتقال والتعذيب، ويحملون في صدورهم ما يحمله أسياد الرجال من كرامةٍ وشرفٍ ونبلٍ كريم، ليدفعوا من أعمارهم الضئيلة الكثير، ومن أجسادهم الهزيلة أكبر من المقدّر لها أداؤه، في صالةِ ألعابٍ رياضيّةٍ أو ملعبِ كرةِ قدمٍ، لا أكثر!
لكنّهم قدّموا لفلسطين ما يُوجِع محتلها ويرهق غاصبها، ويؤرق القتّال، السفّاح، مصّاص الدماء الذي يعيث فيها، يمنةً ويسرةً، دون هوادة، فخطّطوا لإيجاع العدوّ وقضِّ مضاجعه، ولو على حساب مضاجعهم هم، ولو بتوديع النوم والراحة والركون في أحضانِ الأمّهات، فبحثوا في أرضِ البلاد عن حضنٍ أكبر، يسعهم وأضعافهم دفعةً واحدة، هو حضن الأرض ذاتها، حضن الزيتون وجباله، حتى اعتقلهم الاحتلال بوشايةِ واشٍ أو خيانةِ خائن، ولبثوا في سجنه شهورًا أو سنوات كان من المنتظر أن تزيد بلا حدّ، لكن غزّة أبت إلّا أن تحرّرهم، بدماء شهدائها الأبرار وعزيمة رجالها الأحرار.
ومن هنا، خرجوا محمولين على الأكتاف، يزفّهم الشعب إلى الحريّة، وهم وحدهم كانوا يدرون أنّهم محض جنازاتٍ مؤجّلة، وغدًا في وقتٍ قريب سيحملون على الأكتاف بالفصل الأخير من هذا المشهد، وقد أدّوا الدين الذي يحسبونه عليهم، وأيّ دين ذلك يا أخي الذي يكون بالموت مقابل الموت؟ تلك حِسبة نادرة، وفضل وفير، وضمير فائق في حساب الحقِّ والعدل، كأنّهم يفكرون في المعادلة كالتالي: هم حرّرونا بدمائهم، فباتت دماؤهم تلك أمانة في أعناقنا، لن تُؤدَّى إلا بدماءٍ مثلها، في سبيل تحرير أوليائهم! فأيُّ أداء للحقوق ذاك؟ وأيُّ حساب للواجباتِ هو؟ أهكذا يتقاضى الملائكة؟
المعادلة كالتالي: هم حرّرونا بدمائهم، فباتت دماؤهم تلك أمانة في أعناقنا، لن تُؤدَّى إلا بدماءٍ مثلها
الفكرة أنّ هؤلاء في عُرف المقاومة والسجال والشهامة قد أدّوا ما عليهم، قاوموا، واعتقلوا، وحُرّروا، وحقّهم أن يعيشوا ما تبقى من زهرة شبابهم، فما الذي يدفعهم بعد الحريّة إلى حمل السلاح؟ وما الذي يضطرهم إلى تقديم أثمان أخرى بعد التي دفعوها؟ وما الذي يشعرهم بتلك الحرقة في صدورهم تجاه دماء غزّة؟ أليسوا في الخندق نفسه؟ أحدهم أُسر بينما استشهد الآخر؟ الموتُ واجبٌ على الجميع حتى يشعر براحةِ الوفاء لدم أخيه؟ ثم إنّ آخرين كثر لم يقدّموا لا حرّيتهم ولا أعمارهم ولا سلامتهم ويتنعمون في خوفٍ وحذر، ولا يستشعرون بثقل تلك الأمانة كما يستشعرها هؤلاء، أليس الأولى أن يضحوا هم إنْ كان على أحدٍ ما أن يضحي؟
تلك طريقتنا نحن في النظر إلى الأمور، لكن هؤلاء المصطفين في نورِ شمس وطولكرم وبلاطة وشعفاط وغيرها، لا يحسبونها كما يحسبها المتفرجون، وإنّما هم أصل الحدث، وصانعوه، وأسياده، وأشاوسه، وفرسانه، لا يقابلون الله بكرامة واحدة، ولا بتضحية واحدة، ولا بثمن واحد، آبين إلّا أن يدفعوا الأثمان كلّها دفعة واحدة، وحتى حين يذهبون إليه، فإنّهم، كما الشهداء جميعًا، يتمنون لو عادوا فقُتلوا مئة مرّة على ما قُتلوا عليه، وتلك فلسفة الوفاء في فلسطين، بين دين الأحرار للأسرى، وحقّ المحرّرين على الأحرار!