ذكرى "رابعة العدوية"... فقدان الأمل في التراجع إلى الخلف
في الرابع عشر من أغسطس/ آب عام 2013، كنتُ في الخامسة عشر، كان المجتمع المصري قد وصل إلى أشدّ درجات استقطابه أيديولوجياً، منقسماً إلى قسمين: الأول يناهض حكم الإخوان المسلمين (وخصوصاً فيما يتعلّق بأشكال زعامته المُعقدة والتداخل الجماعاتي الحزبي)، والثاني يؤيّد حكم الإخوان المسلمين دون أن يُسائِل الوضع.
كان موقعي حينها، أنّي طالبُ مصري، نشأ في أسرة مُحافظة وميسورة الحال، يُكمل دراسته في المرحلة الإعدادية في إحدى المدارس الحكومية المصرية التابعة لوزارة التربية والتعليم، والتي لم يكن بها تربية ولا تعليم جيّد.
كان الاستقطاب عميقاً حتى وصل إلى داخل أمعاء ذلك الصندوق، فقد كان الطلّاب منقسمين أيضاً بين هذا وذاك، وحتى الأساتذة كانوا يعيشون تلك الحالة نفسها، التي تُفرّقنا على أساس أيديولوجي، وفي أحيان قليلة ديني. حتّى إنّ بعض الطلّاب كانوا يردّدون بالدارجة المصرية: "الأستاذ دا مسيحي.....".
أيضاً، كانت الفئات الاجتماعية التي أحتك بها غير مندمجة في أعماق السياسة، لكنّها لم تكن بعيدة في الوقت ذاته، إذ كان لهم آراء في الجيش والشرطة والإسلاميين والليبراليين والاشتراكيين الثوريين. كانت في بعض الأحيان آراء ولم تكن معركة، لكن الوسيط الإعلامي (أي الإعلام المصري)، قد حوّلها إلى معركة بين الشعب من جهة ومن في الحكم آنذاك (2012- 2013) من جهة ثانية. وقد تبنّى الإعلام خطاباً شعبوياً يدّعي الحديث باسم الناس، وقد صدّق الكثيرون ذلك، إلى درجة أنّ أحد الأصدقاء الذين كانوا مهتمين بخطاب الإعلام وكانت لهم صلة مباشرة بالحزب الوطني، قال لي في يوم من الأيام إنّ كلّ من بالحكم حالياً هم أشرار، ولا يُعبّرون سوى عن مصالح فئة قليلة من الإسلاميين، وإنّ الجيش هو من يحمي البلد من أيّ مدني يتخطّى مصالح الشعب المصري. لم أستغرب تلك الكلمات التي كانت ترجمة طبيعية لأيّ مجتمع مُستَقطَب، لكن ما لفت نظري الثقة التامة التي يتحدّث بها شاب لا يملك من الفكر شيئاً، حتى إنّ تلك الحجة لا يمكن أن تصدر عمن مارسوا السياسة لفترات طويلة. وهنا أدركت بعد سنوات، أنه، أولاً للأسرة دور كبير في التنشئة السياسية لأفرادها، وثانياً، للإعلام دور وسلطة تفوق سلطات الأفراد والأسر، وثالثاً، للجيش سلطات تفوق المجتمع وأفراده.
أمطار من الدماء وقطع العلاقات والتنقّل من مكان لآخر واحتمالات موت مُتكرّرة وحوادث موت حقيقية
ظلّ ذلك الوضع، حتى قامت ساعة الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو/ تموز عام 2013، وقد زادت الصورة ضباباً، فلا أحد يعرف في البداية إن كان تدخل الجيش مُبَرّراً أم لا. ولم يكن عند أصدقائي أو أسرهم خبرة في التعامل مع الانقلابات العسكرية، ليس على مستوى المشاركة السياسية الفعلية وتأييد طرف على حساب الآخر، بل على مستوى تصوّر الوضع والتفكير في المستقبل الشخصي في ظلّ الفترة السوداء المقبلة على البلاد. والأشدّ والأكثر خطورة من ذلك، كيف يتفاعل من أيّدوا الانقلاب مع من رفضوه. فأتذكر أنّي دخلت في حالة حداد لفترات طويلة مع أصدقاء كُثر (وما زالت حتى اليوم)، بسبب أنّ أُسرهم رأت ذلك الانقلاب منجاة لمصر ومستقبلها، ولم يكن تصوّرهم أنه انقلاب من قبل عسكري على مدني أيّاً كان من هو، وما هي خلفيته، وإلى أيّ فصيل ينتمي، ومن يقف وراءه. لكنهم رأوا أنه "فعل للخلاص"، ليس إلّا.
مرّت الأيام، وها نحن الآن نعيشُ حملات اعتقال، ومجازر تترك وراءها بحوراً من الدماء، بداية من "الحرس الجمهوري"، حتى "المنصة"، وانتهاء "بفضّ رابعة العدوية". وما أتذكره من "رابعة العدوية"، أنه بدأت عملية إطلاق النيران بحلول السادسة صباحاً، واستمرت حتى السادسة مساءً، وبين تلك الفترتين، بحور من الدماء في وسط الميدان أو على أطرافه، أو داخل عمارة المنايفة التي قرّرت قوات الشرطة أن تُصفّي كلّ من بداخلها، أو على أطراف مراحيضه، وأمام مُستشفى رابعة العدوية التي ولُدّت بها، والتي تحولت في ذلك اليوم إلى محرقة بالمعنى الحرفي.
لم يكن هذا الفعل الدموي في أذهان البعض بالدرجة نفسها التي كنت أتصوّرها أنا، وعائلتي، وآخرون، ممن كانوا شهوداً على تلك الحوادث، حتى إنّ بعض الأصدقاء المقربين أصرّوا على إقناعي بأنّ ما حدث في رابعة كان لسبب ما، فيما لزم البعض الآخر الحياد. وسبب هذا، أنهم تصوّروا أنها كانت مواجهة، أو معركة بين طرفين يمتلكان أدوات ومُعدّات الحرب، ولم يتخيّلوا بشاعة القتل. وكان عنصر "عدم الاستعداد" أو "عدم التوّقع" أكثر ما جعل الصدمة في نفسي كبيرة، فلم أكن آنذاك على وعي بأنّه ثمّة مواجهة مُحتملة، أو أنّ مجازر "الحرس الجمهوري" و"المنصة" التي سبقت "رابعة"، كانت بمثابة تهديد واستعداد لما هو أشدّ قسوة. وما أعنيه بـ"عدم الاستعداد"، هو أنني لم أستعد لفراق بعض الأصدقاء، ولم أعدّ نفسي لمواجهة أصدقائي خارج مسرح الموت، كما أنّي لم أرسم سيناريوهات للتعامل مع تبعات ذلك الموقف والمستمرة حتى يومنا هذا، والدليل على ذلك، أنّي ما زلت أُفكر في رابعة والمجتمع المصري، من خلال وجهتي نظر مختلفة، الأولى، ما شاهدته قبل وأثناء الانهيار، والثانية، ما أشاهده اليوم.
انقلب التفكير رأساً على عقب، من مناصرة الدولة المدنية على حساب العسكرية، إلى البحث عن بيت لا نجد فيه موتاً
كل هذا، ونحن منذ ذلك الوقت في لكمات متتالية وأحداث وكركبة سياسية واجتماعية ونفسية، وأمطار من الدماء، وقطع العلاقات، والتنقّل من مكان لآخر، واحتمالات موت مُتكرّرة، وحوادث موت حقيقية... ونُريد أن نجد لها تفسيرات في آن واحد. وقد انقلب التفكير رأساً على عقب، من مناصرة الدولة المدنية على حساب العسكرية، إلى البحث عن بيت لا نجد فيه موتاً.
وبعد عشر سنوات من مرور مجزرة رابعة العدوية، فإنّ التفكير فيما ورّثته للمجتمع المصري بوصفها "ذاكرة جماعية"، فإنّي أرى أنها لم تترك شيئاً في هوية المصري أو "مصريته"، سوى أنها كانت إحدى نقاط التحوّل في التاريخ السياسي المدني- العسكري. وبهذا، فقد نسي المواطن العادي "رابعة" وما حدث بها، بفعل متغيّرات السياسة والاقتصاد والمعيش بمفهومه العام. ولنتذكر أنّ الدولار كان بـ 7 جنيهات، كما رنّ في أذهان المصريين آنذاك أنّهم كانوا فقراء، فأصبحوا أشدّ فقراً، وهذه هي "شعوب الله المصرية" التي انشغلت باليومي، ولم يتح لها الفرصة لأن تنشغل بالوقوف على ذلك الحدث بوصفه إحدى نقاط التحوّل في تاريخ مصر الحديث. والأهم من ذلك، أنّ النظام المصري الحالي قد أشرك الناس أنفسهم في ذلك الحدث، وما سبقه وما لحقه رُغماً عنهم، وهذا أولاً، من خلال تصويرهم في صورة "الثائر" على النظام السابق (مبارك) وما تلاه (مرسي)، وثانياً، عن طريق إظهار شجاعة المُخلّصين العسكريين ورجالهم في الخطاب السياسي والدرامي من جهة، ومن جانب آخر، وصف الطرف الآخر (مناصرين محمد مرسي) بأبشع الأوصاف، وهذا ما رسّخ الاستقطاب، وعزّز عمليات "الوصم" في أذهان ومشاعر الناس.
نسي المواطن العادي "رابعة" وما حدث فيها، بفعل متغيّرات السياسة والاقتصاد والمعيش بمفهومه العام
أمّا عمّا تركته الواقعة في أدغال جميع أشكال القوى الرافضة للنظام الحالي، فقد كان هذا الحدث بمثابة "أسطورة" تعمل على ترسيخ أمرين: الأول، التماسك بينهم، باعتبار أنّ ما حدث كان إعلان رفض العسكر آخر محاولات الحفاظ على الدولة المدنية، أما الثاني، فهو أنّ تلك الكارثة قد رسّخت نوعاً من التضامن الاجتماعي القائم على رفض دموية الحدث، وليس على الاتفاق حول ماذا نفعل أو ماذا نريد أو كيف يجب أن نكون.
الآن، وقد بلغنا عقداً من الزمن على تلك الحادثة الأليمة، لا أرى أمامي سوى شبح "ردّ الاعتبار"، وما أقصده بردّ الاعتبار ليس "الأُسري" الذي فصل أسرتي الصغيرة عن أسرتي الممتدة، وهدّد حياة الكثيرين منهم، ولكن ما أعنيه "رد اعتبار الشعب المصري"، الذي لا يستطيع أن يختار من يُمثّله، ولا أن يعيش كريماً، فلم يترك النظام الحالي للمواطن المصري خياراً سياسياً ولا اقتصادياً داخل الوطن، حتّى إنّ المواطن المصري فقد الأمل ليس فقط في بناء طموحات للمستقبل، بل أيضاً في التراجع إلى الخلف، وهو أسوأ أشكال فقدان الأمل. وما تبقى أمام المصريين اليوم، إمّا أن يعيشوا وهم كارهون، أو ألّا يعيشوا داخل الوطن، ويلحقوا بحبال من تغرّبوا ولم يعودوا بعد.
أمّا النخب المعارضة للنظام المصري بانتماءاتها كافة، فعليها فعل الكثير من إعداد ذاتي، وإعادة تنظيم وتثقيف سياسي، وإعادة فهم التاريخ والواقع الاجتماعي والسياسي، وإعادة بلورة التصوّرات والأدوات التي تُمكّن من فعل شيء على المدى المتوسط أو البعيد.