قراءة في تاريخ النسوية الحديثة بمصر
تأريخ للحركة النسوية في مصر: نشأتها وأعلامها واتجاهاتها ومواقفها
تعود الأصول الأولى للحركة النسوية إلى أواخر القرن التاسع عشر، وبالتحديد عام 1880، عندما تأسس "صالون النساء"، لمناقشة حقوق النساء داخل المجتمع المصري. ومع بدايات القرن العشرين، تحول هدف الحركة النسائية الأحادي، إلى آخر ثنائي، بمعنى أن الحركة النسائية أصبحت تطالب بتحرير المرأة، وبتحرير مصر من القوى الاستعمارية البريطانية، ولهذا، ارتبط الوضع السياسي في مصر بوضع المرأة المصرية. مع ثورة 1919، قادت النساء المصريات أول مظاهرة نسائية تناهض الاحتلال البريطاني، وبالأخص تحت عباءة حزب الوفد.
أما بالنسبة للحركة النسوية، كمؤسسة وفعل، فإنها بدأت مع تأسيس "الاتحاد النسوي المصري" عام 1923، الذي أسسته هدى شعراوي، مع مجموعة من النساء ممثلات للطبقة الوسطى والعليا في المجتمع، ولهذا فقد انصب اهتمام الحركة في هذا الوقت على قضايا التعليم والانفتاح الثقافي والمشاركة السياسية، بجانب تبنيها جانباً نقدياً لسياسات الدولة، التي تخلت عن حقوق الشعب، ومنها الحقوق النسائية. بحلول عام 1925، أصدر الاتحاد مجلة وُسمت بـ"المصرية"، كانت تُصدر بالفرنسية لتكون منبراً للحركة النسوية المصرية، بقيادة هدى شعراوي وتوجهها الليبرالي و"التحرري" (من الدين وقيود الدولة السلطوية).
على الرغم من النقد الذي قدّم للحركة النسوية في ذلك الوقت، لكونها لا تمثل النساء المصريات في عمومهن، ولكنها تمثل فئة برجوازية نخبوية متعلمة من النساء، لقد كانت نشاطية الاتحاد ومجلته بالغة داخل مصر وخارجها، فقد شاركت هدى شعراوي، بوصفها رئيسة للاتحاد، وممثلة له، في مؤتمرات خارجية عدة، وكان أشهر تلك المؤتمرات، المؤتمر النسائي الذي أُقيم في روما، والذي لحقه خلع شعراوي الحجاب، ما فُهم بكونه نقطة تحول في مسار الحركة.
أحد الانتقادات التي وُجهت للحركة النسوية في ذلك الوقت، تلخص في أنها تميز ضد النساء من الطبقات الفقيرة، فقد كان هناك غياب واضح لبرامج تشمل الفئات الفقيرة والمهمشة من النساء، وبالتالي، فإن الحركة ضمنياً، كما لو أنها تقول إن الحقوق النسائية يجب أن تُعطى للمتعلمات، أو أن النساء هن المتعلمات فحسب.
بحلول الربع الأول من ثلاثينيات القرن الماضي، وبالتوازي مع حركة هدى شعراوي، ظهرت بوادر اتجاه نسوي إسلامي، عبر قنوات الإخوان المسلمين، فقد أسس حسن البنا "فرقة الأخوات المسلمات" داخل جماعة الإخوان المسلمين، كجزء من حركة الدعوة الشاملة التي قامت على أساسها الجماعة.
في مذكرات الدعوة والداعية، يتصور البنا المرأة من خلال تقسيم العمل التقليدي بين الرجل والمرأة، فهو يرى بأن الدور الرئيس للمرأة داخل بنية المجتمع، لا بد أن يتمحور حول الأدوار التقليدية، أي الإدارة المنزلية وتربية الأطفال (البنا، 2011، 244)، فهو يقول "إن الإسلام جعل للمرأة مهمة طبيعية أساسية هي المنزل والأطفال" (رسالة المرأة المسلمة، الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين)، وهذا ما شكل تعارضاً مباشراً مع الحركة النسوية الليبرالية بقيادة هدى شعراوي، خصوصاً فيما يتعلق بنسخ النموذج الغربي في تحديد أدوار المرأة، وعلاقتها في المجال العام والمجال الخاص. كانت زينب الغزالي رائدة هذا التيار، منذ انضمامها لجماعة الإخوان المسلمين عام 1938 وحتى رحيلها عام 2005.
بمرور الزمن ووصولاً لأربعينيات القرن العشرين، ظهر اتجاه تجديدي داخل الحركة النسوية، يعمل على توسيع مفهوم "الحقوق" ليتخطى التعليم والتثقف، لما هو أشمل داخل الحقوق المدنية والاقتصادية والاجتماعية برمتها. كما مثل ذلك التوجه ما سمي بـ"الحزب النسائي المصري"، بقيادة فاطمة نعمت راشد، والذي حرص على الحصول على بعض الحقوق الأساسية للنساء، مثل الاشتراك في عمليات اتخاذ القرار، والحصول على خدمات صحية، وإجازات للعمل.
بحلول عام 1952، ومع سقوط الملكية، وقيام الجمهورية على أكتاف الضباط الأحرار، ومع موجة حل جميع الأنشطة السياسية الحزبية، جرى حل الأحزاب والحركات السياسية بما فيها النسوية، فيما قامت عوضاً عنها كيانات أخرى ترعاها الدولة وتديرها وتمولها. وفي هذا السياق، أصبحت حقوق النساء جزءاً من المشروع الوطني للجمهورية، فقد ضمن مثلاً دستور 1956 حق الانتخاب، وحق التعليم المجاني للنساء، والعمل بأجور مناسبة.
بمرور الزمن ووصولاً لأربعينيات القرن العشرين، ظهر اتجاه تجديدي داخل الحركة النسوية، يعمل على توسيع مفهوم "الحقوق" ليتخطى التعليم والتثقف، لما هو أشمل داخل الحقوق المدنية والاقتصادية والاجتماعية برمتها
بحلول منتصف الستينيات، جرى تشكيل "جمعية هدى شعراوي"، ومن بعدها "الاتحاد النسائي المصري"، الذي أصبح بمنزلة مؤسسة ضمن المؤسسات الحكومية، باعتبار الشأن النسائي ضمن برنامج الدولة السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي. وبهذا، فقد شهدت تلك الفترة، توجهاً نسوياً، يتسق مع توجه وسياسات الدولة الناصرية، ذات الطابع القومي العروبي، والأممي الإصلاحي، والذي ينتقل أيضاً من "النسوية البرجوازية" نحو النسوية الشعبية، ما أسمته الأدبيات "بداية التيار النسوي الرسمي"، والذي استمر فيما بعد كما سنرى لاحقاً، حسب دراسة حنين البرازي (البرازي 2016، 11-28).
منذ بدايات السبعينيات، ظهر التيار الليبرالي التحرري، بكثافة أكبر، وخصوصاً مع بروز نوال السعداوي، من خلال كتابها "المرأة والجنس"، والذي كان بمثابة نقطة تحول في الفكر النسوي الليبرالي، وخصوصاً في تحديده لعلاقته مع الدين والحركات الإسلامية، وحتى النسوية الإسلامية. لقد شملت تلك الفترة من الزمن مركزيات نسوية جديدة، أهمها تمثل في محاكمة المُنجز التاريخي النسوي المصري، فكان هنالك سؤال دائم التكرار: "ماذا أنجزت الحركة النسوية المصرية خلال نصف عقد تقريباً؟".
وهذا السؤال نبع من أن وضعية المرأة منذ بدايات القرن العشرين وحتى ذلك التوقيت (بالتحديد بعد رحيل جمال عبد الناصر)، لم تشهد حراكاً كبيراً على مستوى الحقوق والاعتبارات المجتمعية. كما أن مفهوم "السلطة الأبوية" جرت مناقشته بشكل معمق من خلال كتاب نوال السعداوي "المرأة والجنس"، وحاججت السعداوي بأن السلطة الأبوية تعد الفاصل بين الحرية والعبودية في العصر الحديث، وفي علاقات الجنسين، خصوصاً داخل منظومة الزواج، التي تعد المرأة فيها تابعة بالكلية للرجل في كل خياراتها وتفضيلاتها.
وعليه، فحسب فرضية السعداوي، فبجانب قيود الدين والسلطة على المستوى الماكرو، يظهر سلوك ذكوري على المستوى المايكرو يجعل المرأة تابعة له في جملة الأمور خاصتها. ولهذا السبب، فالمرأة لا بد أن يجري تحررها بالكلية، من الرجل، ومن الدولة، ومن الدين (السعداوي 1972، 23-86).
بحلول الثمانينيات وحتى بداية الألفية الجديدة، لم يتغير وضع المضمون النسوي كثيراً، فقد كان ليبرالي التوجه، لكن الحركة الجماعية للمؤسسات النسوية شهدت شكلاً تنظيمياً هرمياً أكثر صلابة، خاصة مع تشكل حركة المرأة الجديدة ولجنة الدفاع عن النساء وحقوق الأسرة، كما أنه في عهد حسنى مبارك، تكثفت عمليات "مأسسة النسوية"، خاصة الرسمية منها، من خلال "المجلس القومي للمرأة"، ليكون المؤسسة الحكومية الرسمية التي تسعى وراء صياغة وإعادة صياغة حقوق المرأة المدنية والاقتصادية والاجتماعية، مثل أنها كان لها مساهمة في منح النساء حقوقاً قضائية في محكمة الأسرة، مثل حق الخلع وشروط الطلاق، ما صور الدولة المصرية في عهد مبارك بحامية حقوق المرأة.
هذه التحركات الجديدة في الخط النسوي الدولاتي لم تكن بمعزل عن نشاط الأحزاب غير التابعة للدولة، فكما تشكل في ثلاثينيات القرن الماضي كياناً فرعياً داخل جماعة الإخوان المسلمين للأخوات المسلمات، فقد نشطت لجان المرأة داخل الأحزاب السياسية، التي عملت على تكثيف الضغوط على مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية من أجل حقوق نسائية، خصوصاً ما يتعلق بالأسرة، والمشاركة السياسية، والانخراط في المجال العام دون التمييز ضدهن على أساء الجنس أو الانتماءات.
مع قدوم الثمانينيات وحتى بداية الألفية الجديدة، لم يتغير وضع المضمون النسوي كثيراً، فقد كان ليبرالي التوجه، لكن الحركة الجماعية للمؤسسات النسوية شهدت شكلاً تنظيمياً هرمياً أكثر صلابة
بالتقاطع مع الاتجاهين الليبرالي التحرري والدولاتي، نشط الاتجاه النسوي الإسلامي، على مدار ما يقرب من نصف قرن، وبدا أنه مع السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات أقل تصلباً، فقد شهدت الحركة النسوية الإسلامية بقيادة زينب الغزالي، انفتاحاً على الحركات النسوية الأخرى، من ناحية الانخراط في القضايا التي يطرحها الاتجاه النسوي الليبرالي، لكنها أضفت له صبغة إسلامية. فمثلاً، فيما يخص عمل المرأة ومشاركتها السياسية، لم تنسحب الحركة النسوية الإسلامية من تلك المطالب (التي لم تكن ضمن الأولويات في النصف الأول من القرن العشرين)، لكنها انشبكت مع نموذج تحرير المرأة، لكن مع التأكيد على مراعاة النساء المحجبات وأخلاقهن الإسلامية، وهو ما شكّل جدلاً قائماً حتى يومنا هذا بين النسوية الإسلامية والنسوية الليبرالية.
الحركة النسوية المصرية خلال العقد الأخير: قراءة في تمثلات نساء التحرير وما بعدها
لقد شكّلت ثورة يناير 2011، نقطة انطلاق، للحركة النسوية التحررية والإسلامية على حد سواء. في ظل المجتمع الواسع المتسم بالسلطوية والتقليدية، برزت النساء في ميدان التحرير، مثلما كان لهن حضور في ثورات 1919 1952.
يضيء لنا البحث الميداني الذي قامت به حنين البرازي، لبحث التحولات التي حدثت للحركة النسوية المصرية من خلال بحثها لنساء ميدان التحرير، والتي خلصت إلى خلاصات عدة، أهمها التالي. أولاً، أن لحظة يناير شكّلت انفكاكاً للثنائيات التقليدية بين الجناح الليبرالي والإسلامي، فالهدف المشترك المتمثل في إسقاط النظام الحاكم تخطى الانتماء السياسي والفكري.
لكن هذه اللحمة لم تظل كما كانت بعد سقوط مبارك، خصوصاً ومع حصول الإخوان المسلمين على أغلبية المقاعد البرلمانية عام 2012، والتطلع نحو دستور جديد يعيد موضعة المرأة وقوانين الأحوال الشخصية، حتى إن مفهوم "النسوية" فمينيزم feminism نفسه، شكّل خلافاً، فالأخوات المسلمات تحت عباءة حزب الحرية والعدالة (الجناح السياسي للإخوان المسلمين الذي تشكّل بعد ثورة يناير ٢٠١١) ترفضن أن تُسمين بالنسويات، لما يحمله المفهوم من "مركزية أوروبية"، فيما تؤكدن على مفهوم "الفطرة" والحقوق التي أعطاها الدين الإسلامي للمرأة، كما قالت هدى عبد المنعم، إحدى الأخوات المسلمات في مقابلتها مع الباحثة حنين البرازي.
إذاً، فبمجرد زوال نظام مبارك، عاد التصلب الهوياتي والثنائيات التقليدية مرة أخرى، إذ تقول نيرفانا (نسوية ليبرالية) إن: "الأخوات المسلمات هن أخوات لبعضهن فقط، أنا شخصية حرة، وأخواتي هن الأحرار"، وهذه المقولة بالرغم من طابعها الأيديولوجي، إلا أنها تعبر عن وضعية الاتجاه النسوي الليبرالي مقابل الإسلامي، ما لا يترك مناطق رمادية في الوسط.
ثانياً، غابت الحركة النسوية الرسمية، المُمثلة في كيان "المجلس القومي للمرأة"، فيما استعادت الحركة النسوية الليبرالية والإسلامية مكانتها داخل المجتمع، فقد نشطت مؤسسات نسائية مثل "المرأة الجديدة، و"المرأة والذاكرة"، كما تأسست مؤسسات أخرى حداثية بعد الثورة، مثل "مؤسسة نظرة" وحركة "بهية يا مصر" والتي حرصت على تعزيز الحقوق المدنية والمواطنة، والتي اتسقت مع النفس الليبرالي الديمقراطي في ذلك الوقت. ثالثاً، لقد أصبح الصوت النسائي جزءاً أساسياً في صناعة القرار وتسيير الحالة العامة للدولة والمجتمع، فقد زادت نسبة المشاركة السياسية بعد يناير إلى 83 بالمية. رابعاً وأخيراً، لقد شكّل الدين والتقليد مركزيات في تحديد هوية الحركة النسوية ومستقبلها، فإشكاليات تفسير الدين تفسيراً نسوياً، وتحديد الهوية الثقافية للنساء، تظل عناصر مفتوحة للنقاش، منتظرة مزيداً من الطرح الفكري.
مناقشة ختامية
لقد تدخّلت الأحداث السياسية (ثورة يناير وانقلاب يوليو) المتعلقة بالثورات، والاجتماعية المتعلقة بالنقاش حول قضايا الحجاب وأدوار المرأة في المجال العام، باعتبارها عوامل وسيطة في تحديد مسار الحركة النسوية في مصر. لقد شكّل انقلاب 2013، فصلاً جديداً في علاقة السلطة بالنساء المصريات، فقد أصبحن جزءاً أساسياً من حملة العنف العسكري ضد المعارضين للانقلاب، سواء بسجنهن أو بإخفائهن قسرياً، أو باستخدامهن أداة ضغط على ذكورهن، للتخلي عن مواقفهم السياسية الرافضة للأمر الواقع الذي فرضته السلطة العسكرية.
وعلى الرغم من الإرث التاريخي للحركة النسوية في مصر باتجاهاتها ومواقفها كافة، وعلى الرغم من الصراع القائم بين جميع التيارات الليبرالية والإسلامية، وفرض بعض القضايا نفسها بوصفها عرضة للنقاش حتى اليوم، مثل العنف المنزلي والتحرش الجنسي، فإن ثمة ضغوط على السلطة المصرية لإعادة هيكلة العلاقة بين الجنسين، وإعادة بناء التصوّرات التقليدية، وقد نص قانون صدر عام 2014، بتجريم التحرش بمختلف أبعاده، اللفظي والنفسي والجسدي، وبالرغم من غياب الإرادة السياسية نحو التغيير الفعلي فيما يخص حقوق النساء، وغياب أداة الفعل السياسي، فإن مستقبل منظومة الحقوق والعلاقات مرهون بشكل مباشر بالمستقبل السياسي والاجتماعي والاقتصادي المصري.