رأس السنة الجديدة والذهول
وكأنني لم أتعرّف من قبل لمعنى الأعياد، ولا لتفاصيلها، كأنني لم أهدِ يوماً أحداً ما هدية، وكأنّ أحداً لم يهد إليّ أيّ هدية أيضاً.
ارتبطت بداية هذا العام بالذهول، عوائل مجتمعة، تقرأ على مسامع بعضها رسائل تمّ إرسالها من قبل أفرادها، تطلب بالتحديد هدية العام الجديد.
لم أتعرّف يوماً إلى وضوح مطلبي كما هذا العام! كلّ شيء محدّد ومبرّر، والطلبات ملبّاة كما يجب أن تكون، وإلا سيرفق أي تغيير بالهدية المطلوبة رسالة تبرير خاصة مع اعتذار.
في بلدي سورية، ترتبط الهدية بالمناسبات الكبرى كالزواج وعيد الأم والانتقال إلى بيت جديد، وربما في أعياد الميلاد وزيارة المرضى... ترتبط بالعبء الثقيل، فهناك كلفة عالية وخيارات مبهمة وحيرة بين الطرفين. والمحصلة، أنه قلّما لبّت الهدية حاجة الطرف الآخر، وقلّما أرضت من أهداها، لأنه وحسب الغالب، يتم منح هدايا مهداة سابقاً، ومخبّأة لهذه اللحظة. إذن الهدية هنا، عبء وردّها عبء مضاعف، والتصرّف بها يبدو فعلاً من التذاكي، لكنه في الحقيقة محبط ودون أيّة جدوى.
الهدية في بلادنا عبء وردّها عبء مضاعف، والتصرّف بها يبدو فعلاً من التذاكي، لكنه في الحقيقة محبط ودون أيّة جدوى
والأكثر مدعاة للذهول هو ارتباط هذه الهدايا بنمط الحياة ومستوى المعيشة، هدايا من أنواع خاصة، تتماشى مع روح العصر، ومع النمط الاستهلاكي المباشر للمجتمع. قسائم تسجيل بورشة لتعليم صنع الفخار، قسيمة للتمتّع بمسّاج تايلندي، قسيمة لورشة تعلّم التصوير الضوئي، آلة منزلية خاصة لتحويل المياه إلى مياه غازية، قسيمة لتعلّم تدوير الأقمشة، ألبوم لأفيشات أفلام سينمائية لفترة محدّدة.
كلّ الهدايا تلبي تفكيراً مغايراً لما اعتدنا على إهدائه، في أعياد الأم نهدي إليها صحوناً وقدوراً لنكرّس دورها الفريد وإبداعها الوحيد في المطبخ، وكأننا لا نرى فيها إلا طباخة للعائلة، أو نهديها حقائب نسائية تتراكم في خزانتها حتى تضيق بها، وكلما كانت الحقيبة رسمية أكثر كلّما تسابقنا لشرائها، وكأنّ أمهاتنا متفرّغات فقط للزيارات الرسمية.
طالما خلت حياتنا من الطابع الاحتفالي للهدية بشكل عام، أتذكر مرّة قول أمي لي، إنها تتمنى لو تفتتح محلاً خاصاً لبيع الحقائب كي تتخلّص من عبء حقائبها المخزّنة، وعندما أعادت والدة صديقتي هدية ابنتها لها، لأنها لا تحتاجها، غضبت صديقتي جداً واتهمت والدتها بالقسوة.
والأكثر مدعاة للذهول هو معنى العيد، لطالما بلغت أمهاتنا ذروة التعب وهنّ يحضّرن للأعياد بالطرق التقليدية، من تنظيف واسع للبيت والجدران والنوافذ وغسيل وكي للمراتب والأغطية، وطبخ عدّة أنواع من الوجبات، ولعدد كبير من الأشخاص، عدا عن صناعة الحلويات المنزلية التقليدية الخاصة بكلّ عيد، ولطالما استدان أهلنا، وخاصة الآباء واقترضوا مسبقاً سلفة مالية على راتب الشهر المقبل، ليسدّدوا الكلفة الباهظة للأعياد.
لطالما استدان أهلنا، وخاصة الآباء، واقترضوا مسبقاً سلفة مالية على راتب الشهر المقبل، ليسدّدوا الكلفة الباهظة للأعياد أو الهدايا
هل يمكن وصف الفروق بين مظاهر الأعياد في بلادنا، وبلاد أخرى بالفروق الحضارية؟ أم أنّ الحنين وفرط التعوّد والإغراق بالصورة النمطية لمعنى الأعياد ومهمات الأم والأب والقبول بها، بل وتكرارها دون المساس بأي تفصيل بسيط فيها، سيمنعنا عن التفكّر أو المقارنة؟ لا أحد يمتلك الإجابة، وكلّ من يحاول التغيير سينبهه خوفه من الآخرين وتعليقاتهم، فينكفئ عن أيّ محاولة للتغيير ويستسلم للشكل التقليدي المبالغ في طحنه لذواتنا ورغباتنا، مرغماً ومنكسراً فيما يشبه الخضوع للتقاليد مهما جارت وتسبّبت بالتعب والإفلاس.
والذهول يتحوّل لأسى، مع أمنيات غامرة بأن يصبح محرّضاً للتغيير أو ناقلاً لعدوى التنبّه إلى ما نحتاجه أولاً، ما يفرحنا ثانياً، وما يجمعنا رغم اختلاف الرغبات بالهدايا أو بشكل ممارسة طقوس الأعياد.
والبلاد الغارقة في قهرها والممعنة في ظلم نسائها، وكأنهن مجرّد محركات ضخمة عليهن توليد الرضا، مرغمات على خدمة الجميع، تنكر على أهلها الراحة والمتعة، وتدافع عن تقاليدها باتهام الآخرين بالفردانية والانغلاق والتوّحد، وقد تصف تلك المجتمعات بالقسوة والانعزالية، وكأنها تردّ التهم ذاتها عن نفسها، وترميها على سواها في ردّ فعل استباقي لتبقى التقاليد بكافة أشكالها ثابتة لا تتغيّر، وتصبح أهم من البشر، وبدل أن تسعدهم وتسهل حيواتهم، تحوّلهم لأدوات لتكريسها.