"رابعة العدوية".. وهم النجاة من المذبحة
لم يعد الرصاص يتخلّل البشر الواقفين، ولم تعد الرؤوس تتساقط بطلقات القناصة، ولم يعد الميدان مشتعلًا بالخيام ومن فيها، ولم تعد الجثث ممدّدةً في كلّ ركن من الشوارع الفسيحة، ولم يعد هناك صوت لصافرات الإنذار، ولا دويّ "سارينات" المدرعات، ولا مذياع النيابة العامة التي تؤكد أنّ كلّ شيء يحدث في عملية الفض قانوني وبطريقة سلمية... انتهى كلّ ذلك، مات من مات، قُتل من قتل، اعتقل من اعتقل، أصيب من أصيب، وخرج من خرج... انتهى اليوم حينها، بالنسبة لألف إنسان حسب بيانات رسمية، أو لآلاف حسب ما شهدته بعيني، جميعهم فارقوا الحياة.
لكن، بالنسبة لعشرات الآلاف الآخرين، ما زالت المذبحة مستمرة، تُطاردهم في أحلامهم، وتلاحقهم في تفاصيل حياتهم، تتخلّل كلّ حدث وذكرى، وتتحيّن كلّ فرصة، وتستغل كلّ مناسبة، لتؤكد أنها ما زالت هنا، شبحًا أو وحشًا ضخمًا لم يشبع بعد، يأكلهم نفسيًّا، يهزمهم، يتسلّى عليهم، يسكن قلوبهم وأذهانهم، لأنهم للأسف الشديد، لم يقتلوا برصاصة في القلب، ولم يفقدوا الذاكرة.
عشر سنوات من ذلك اليوم، ولم ألجأ لطبيب، عدا الطبيب الجرّاح الذي استخرج شظية رصاصة توقفت قبل مخّي بمليمترين، بعد أن اخترقت جدار رأسي، وبعض الشظايا الأخرى المتفرّقة في وجهي وجسمي، ولم ألجأ إلى طبيب نفسي يعالجني، سوى مرّة قبل مدّة، وسخرت من نفسي حينها، واستأت من فعلي، لأنني لم أعانِ من صدمة إثر وقوع حادث سيارة، ولا حريق، ولا كارثة طبيعية، ولا أيّ شيء من مصائب الدنيا أو أهوالها حتى، فما أعاني منه كان حدثًا تاريخيًّا فريدًا، كمن حُوصروا في معسكر خلال الحرب العالمية مثلًا، أو ممن تعرّضوا لإبادة عرقية في دولة ما، هل سيلجؤون إلى طبيب نفسي؟ ما تعرّضت له، وشهدته، وكنت من ضحاياه، كان "مذبحة" ضمن الأبشع في العصر الحديث.
أيّ معالجة ستُنسي ذهني الأدمغة الساقطة التي رآها والتقف أمخاخها؟ أيّ طبيب سيخرج سويًّا وقادرًا، ولا يحتاج إلى علاج بعد أن يسمع عمّا رأيت من دماء تكفي لصبغ عيني بالأحمر طوال عمري كلّه؟ أيّ وقت سيسع حديث إنسان عن مجزرة عاشها من السادسة صباحًا إلى اليوم التالي حتى عاد إلى بيته بلفافة ضخمة حول رأسه، وسترة مضرجة بالدماء على جسده، وحذاء ارتداه من قدمي شهيد؟ أيّ لسانٍ سيصف ما يصيب بالبكم؟ حين زرت الطبيب، ضحكت كثيرًا بينما أحكي، لأنّني لو تركت نفسي سأنفجر بالبكاء، وليست المشكلة هنا، لكن في أنّ البكاء قد يمتدّ حتى أفقد المزيد، فوق ما فقدت هناك قبل عشر سنوات.
ظلّلت فاقداً الوعي ساعات طويلة بين الجثث، مضرّجًا في دمائي النازفة من رأسي ووجهي، لكنني انتُشلت من الموت بأعجوبة، خرجت منه، ولكنه أقام فيّ.
لا فيلم وثائقيًّا، ولا طويل دراميًّا، ولا مسلسل من ألف حلقة، ولا كتاب من ألف صفحة، ولا رواية، ولا الشهود أنفسهم، سيستطيعون وصف لحظة واحدة من هول ذلك اليوم، أنا لم أشكّ حينها، أنّ القيامة ستقوم خلال يومين على الأكثر، لأنّنا كنّا يوم الأربعاء، ولا بدّ أن تقوم القيامة الجمعة، لم أشكّ للحظة، أنني سأموت، أنني سأفقد حياتي خلال دقائق قليلة، إما عشر دقائق أو ربع ساعة، ثم سأمضي بعيدًا، إلى الأعلى.
لكنني، على الرغم من ذلك كلّه، خرجت، وعدت، صحيح أنني ظلّلت فاقدًا الوعي ساعات طويلة بين الجثث مضرّجًا بدمائي النازفة من رأسي ووجهي، لكنني انتُشلت من الموت بأعجوبة، خرجت منه، ولكنه أقام فيّ.
ولا أظنّ أنني منذ ذلك الحين أحيا بكاملي، وظائفي الحيوية تعمل، تعافيت من الجروح من أثر الرصاص، ولكنني فقدت أجزاءً أخرى، في قلبي وروحي ونفسي وعقلي، لم تعد كما كانت من قبل، أعيش بداخلي مع إنسان جديد أحاول التعرّف عليه بالكامل، لكنه يُفاجئني كلّ فترة بأنّه لم يعد أنا الذي كان قبل الرابع عشر من أغسطس/ آب 2013.
حين أتحدث عن ذلك في أيّ مكان، قد يقدّمني المشرفون على أنني "ناجٍ" من المجزرة، لكنني أكتشف بشكل عجيب، ومؤكد، أنّ النجاة وهم كبير، لم أنجُ، ولم ينجُ فرد واحد، الشهداء لم ينجوا مما رأوه إلا بمفارقة الحياة وتوّقف الذاكرة والقلب، المعتقلون لم ينجوا بل وقعوا في مذبحة أخرى، والجرحى لم ينجوا بما شعروا به خلال اختراق الرصاص أحشاءهم، والشهود لم ينجوا بما طمست به عيونهم إلى الأبد.