رسالة نادرة من عبد الرحمن منيف (1/2)
"روح طبعاً بس ما أعتقدش إنك هتكمل مع صلاح"، كان هذا ما قاله لي الناقد الكبير فاروق عبد القادر حين قلت له إنني تلقيت عرضاً من الكاتب الكبير الأستاذ صلاح عيسى بالعمل معه مديراً لتحرير صحيفة (القاهرة) التي شرعت وزارة الثقافة في إصدارها في مطلع هذه الألفية، وأنني أميل إلى قبول ذلك العرض بعد أن زهقت من الترحال بين الصحف والمجلات والقنوات التلفزيونية، وأصبحت بحاجة إلى الاستقرار والتركيز في مشروعات كتابة لا يمكنني أن أنجزها وأنا أواصل تلقيط رزقي من صحيفة عربية أكتب فيها، إلى قناة أعد فيها برنامجاً تلفزيونياً.
وقتها، كانت علاقتي بالأستاذ صلاح عيسى في أحسن حالاتها، فلم آخذ ما قاله الأستاذ فاروق بجدية، وتصورت أنه يعود إلى ما يوجد بينهما من خلافات قديمة لم يكن أي منهما يحب أن يحدثني عن تفاصيلها لأنه يعلم محبتي وتقديري للآخر، ولذلك وافقت على عرض الأستاذ صلاح وبدأت في التحضير للمهام التي كلفني بها وكان من بينها الإشراف على عدد من الصفحات، كان من بينها صفحتان بعنوان (تيارات عربية)، كان يفترض بهما أن تغطيا أخبار الثقافة العربية وأحوالها من خلال مزيج يجمع بين الأخبار والتقارير والحوارات والتحقيقات، وكان من أول ما فكرت فيه لإغناء تلك الصفحتين أن أتفق مع الأستاذ فاروق عبد القادر على نشر عدد من الرسائل المتبادلة بينه وبين كبار الكتاب العرب الذين ساهم بقوة في تقديمهم للقراء المصريين، وكانت كلمته التي تمدح كتاباً أو تحتفي بكاتب بالنسبة لقرائه المنتظمين من أمثالي شهادة لا تخيب ووعداً لا يُخلف بمتعة وفائدة، وحين عرضت على الأستاذ فاروق استقبل ما قلته بضحكة عريضة، ثم صمت قليلاً وسألني: "طيب خدت رأي رئيس تحريرك الأول؟"، ومع أن سؤاله كان يندرج في بند البديهيات، إلا أنني استقبلته بحنق الشباب، وقلت له إنني لست بحاجة إلى سؤاله، لأنني أمتلك تفويضاً يمنحني صلاحية الحركة لكي أجعل الصفحات التي أشرف عليها في أحسن حال.
جدّد الأستاذ فاروق حنقي بضحكة عريضة مجددة، ثم قال لي إنه على سبيل التجربة سيمنحني رسالة جاءته من الروائي الكبير عبد الرحمن منيف، تلقاها منه بعد أن قام بكتابة دراسة مهمة ورائعة عن ملحمته الروائية (أرض السواد)، التي انتظرها قراؤه طويلاً منتظرين أن يجدد بها أمجاده التي حققها من قبل في ملحمة (مدن الملح)، وحين رأى الأستاذ فاروق فرحتي البالغة بهديته الرائعة، أراد أن يطفئها سريعاً، وقال لي إنه يشك في أن صلاح عيسى سينشر الرسالة، وإن نشرها فلن يحتفي بها كما يليق برسالة كهذه، وأن الكثيرين طلبوا منه قبل ذلك أن ينشر مراسلاته مع الكتاب الذين قام بنقد أعمالهم، لكنه كان يؤجل المشروع ليكون موضوعاً لكتاب مستقل.
أعطاني الأستاذ فاروق الرسالة التي تلقاها من الروائي عبد الرحمن منيف، ومع أنها كانت نسخة مصورة من الرسالة الأصلية، إلا أنني تعاملت معها بتقدير وتوقير يليقان ببردية نادرة الوجود
قلت له بعد أن انهلت عليه شكراً وتقديراً إن الرسالة ستنشر في صدر واحدة من صفحتي (تيارات عربية) وسأحرص على أن يشار إليها بعنوان بارز في الصفحة الأولى، ليس لأن هذا ما تستحقه فقط، بل لكي يشجعني ذلك على الإلحاح والزنّ لكي يمنحني رسالة مختلفة في كل عدد، شرط أن يسمح لي بعمل حوار معه عن كل رسالة، أتحدث فيها عن علاقته بذلك الكاتب أو تلك الكاتبة، وكيف نشأت وتطورت، وهل حدث فتور أو قطيعة بسبب ما كتبه عن هذا العمل أو ذاك؟ واستمع الأستاذ فاروق إلى كل ما قلته بذات الضحكة العريضة المستفزة، ثم قال لي: "طيب أنا باقول لك رئيسك صلاح مش هيحب فكرتك ومش هيحتفي بالرسالة، بس أنا هاديك الرسالة هدية مني للعتبة الجديدة، ولو إني تاني باقولك مش هتكمل".
في قعدتنا التالية في مقهى سوق الحميدية بوسط القاهرة الذي كان الأستاذ فاروق يعقد فيه ندوته الأسبوعية، والتي كنت أحضرها بانتظام قبل أن أترك الصحافة وأنشغل بالسينما، أعطاني الأستاذ فاروق الرسالة التي تلقاها من الروائي عبد الرحمن منيف، ومع أنها كانت نسخة مصورة من الرسالة الأصلية، إلا أنني تعاملت معها بتقدير وتوقير يليقان ببردية نادرة الوجود، وكتبت لها مقدمة تحتفي بها وتشرح أهميتها، ثم أعقبت تلك المقدمة بالرسالة التي كان نصها كالتالي:
"دمشق 4/3/2000
أخي العزيز فاروق
تحيات كثيرة وأشواق أكثر
كنت أتصور، في أحيان كثيرة أنني أكتب لنفسي، ولو لم أفعل يمكن أن أنفجر، فكل شيء يحيط بنا، يطوقنا ويضغط على رقابنا، يشعرنا بالاختناق، فإذا لم نبادر إلى عمل شيء ما يمكن أن نموت غيظاً.
كتبت "أرض السواد" بهذا الدافع، كنت أريد أن أقول ماذا يبني هذا البلد العظيم، العراق. لم أكن معنياً بصدام أو من يماثله من الحكام، فالبلد، الأرض والناس، أثمن لدي من أي حاكم، وهو الذي يستثيرني، خاصة عندما يُهان أو يتعرض للأذى. اخترت من حياة داود فترة قصيرة، فقط لأقول إن هؤلاء الأجانب، رغم القوة، ليسوا آلهة، وبالتالي يمكن هزيمتهم. طبيعي هناك فصول أخرى في نهاية وحياة داود، خاصة في العراق، لكني لم أجد ضرورة للإشارة إليها على الأقل في هذه الفترة.
اكتشفت بالتجربة، أن ما أكتبه لنفسي يعني الآخرين أيضاً، وهذا ما يجعلني أكثر جرأة في تناول بعض الموضوعات، والوصول فيها إلى الحواف الخطرة. واكتشفت، بالتجربة، أنك واقف لي في المرصاد، أو مثل لاعبي التنس، إذ ما أكاد أقترف الكرة، حتى تستقبلها بكثير من المعرفة والمودة، وتحاول أن تروضها وأن تعيدها إلى القارئ وإليّ معاً.
شكراً لقراءتك الهامة لأرض السواد، لقد شعرت أنني لا ألعب وحدي، ولا ألعب في الفراغ. ربما كانت أكثر الكرات المرسلة على شكل S كما يقال في مصطلحات لعبة التنس، لكن كنتَ قادراً على التقاطها، وكنت ترد بالطريقة المناسبة.
قدّرتُ أن "أرض السواد" تحتاج إلى بضع سنين لكي تُقرأ ويتم استيعابها، وقد وطّنت نفسي على الانتظار، لكن قبل أن تخرج من الفرن، كما يقال، كنت لها منتظراً، وكتبت هذه الدراسة التي أضفت على الرواية ألقاً مميزاً يشعرني بنوع من الحرج. أتمنى أن أكون عند حسن ظنك، وأتمنى أن أكتب أشياء أخرى تخرج من القلب وليس من الحنجرة.
"لهجة الرواية" لا تخلو من صعوبة، لكن وجدتها ضرورية من أجل نقل الجو وإيصال الرسالة. إن قهوة الشط، برجالها ومناخها وتوالي الفصول عليها، أعز عندي من أي مكان آخر، لكن هيهات من يقدر هذا الجو. ناس القاع شغلوني أكثر من داود وعليوي. الناس الذين ليس لهم أسماء أهم عندي من النياشين والألقاب الفخمة. أقدر أن هناك صعوبات في التقاط بعض الرسائل، لكن تثبيتها كان ضرورياً. زينب كوشان، أو فطوم، شغلتاني أكثر من شرين في سباق المسافات الطويلة، ويمكن أن تقول الشيء ذاته عن زنون وسيفو والآخرين. حتى الذين مروا سراعاً خفافاً، كانوا عندي يسهرون ليالي بطولها لكي يخرجوا بهذا الشكل وعلى تلك الصورة.
لا أريد أن أسترسل، لكن الرسالة إذا وصلت كلها أو بعضها، تخلق لي غبطة تنسيني التعب، وهذا هو التعويض المناسب.
أخي الكريم.
شكراً لك للمرة الألف، وشكراً على "أوراق التسعينات" الذي أتمتع بقراءته ليلة بعد أخرى.
لقد طلبت إلى ناشر "قضايا وشهادات" أن يرسل لك بضع نسخ من العدد المكرس لسعد الله، أرجو أن يكون قد فعل.
أكتب هذه الأيام "رسائل مفتوحة" وقضايا متعلقة بالفن. إنها استراحة المحارب كما يقال، وسوف أعود في الخريف إلى رواية جديدة، كما أرجو أن تكون هذه المرة قصيرة مركزة، كي يكف الناس عن شتمي على هذه الروايات الطويلة.
أتمنى أن أسمع منك، وأن نبقى على اتصال.
وأستأذنك، بأنني سآخذ المقطع الأخير في دراستك عن أرض السواد لكي أثبتها على أحد أجزاء الرواية، خاصة وأنها الآن في طور إعادة الطبع.
تقبل في الختام تحياتي الحارة وأشواقي الكثيرة.
عبد الرحمن منيف".
...
نكمل غداً بإذن الله