رسالة نادرة من عبد الرحمن منيف (2/2)
كان ما قاله الأستاذ فاروق عبد القادر قد أثار قلقي، فلم أقم بإخبار الأستاذ صلاح عيسى عن رسالة عبد الرحمن منيف التي حصلت عليها، ولا عن مشروع الرسائل الذي أنوي عمله بالتعاون معه، وقررت أن أريه الموضوع الخاص بالرسالة حين أقوم بتسليم مواد الصفحتين لعرضها عليه، وحين فعلت ذلك اتضح لي أن فاروق عبد القادر كان محقاً فيما قاله، فقد نظر إليّ الأستاذ صلاح بصمت مستهين، وأنا أقوم بتقديم الموضوع الخاص بالرسالة مباركاً ومهللاً على طريقة "نوبتشية الأفراح"، وأقول له إنها ستكون الموضوع الرئيسي للصفحة الأولى من صفحتي (تيارات عربية).
قال ذلك الصمت الكثير، فقد كان صلاح عيسى من نوعية رؤساء التحرير الذين لا يكتمون مشاعرهم المرحبة بموضوع جميل أو مهم، وكنت قد عرفت منهم حتى ذلك الوقت الأساتذة إبراهيم عيسى ورجاء النقاش ورؤوف توفيق، بعكس الأستاذ مكرم محمد أحمد الذي كنت قد عملت معه قبلها بعام في مجلة (المصور)، والذي كان يستقبل منك خبر حصولك على سبق صحفي ببرود شديد يجعل سبقك يبوخ في عينيك حتى يلقى حتفه، ثم تسمع من غيره أنه كان سعيداً للغاية بما قمت به من سبق، وأنه لا يحب أن يظهر مشاعره الحقيقية أمام الصحفيين لكي لا يسوقوا فيها ويتوقفوا عن اللهاث وراء الجديد والمهم، ولذلك قلقت للغاية حين ظهرت أعراض مكرم محمد أحمد على صلاح عيسى، ولم يعد يشغلني سوى شيء وحيد، ما الذي حدث بالضبط بين الأستاذين الكبيرين صلاح وفاروق لكي تصل علاقتهما إلى هذا الحد الذي يدفع ثمنه مشروع صحفي كنت أظنه واعداً؟
لم ينتظر صلاح عيسى كي أستفيض في الدفاع عن الرسالة وشرح أهميتها، بل قرر الهجوم قائلاً إنه لا يرى أن نشرها مهم أصلاً، لكنه برغم ذلك يقدر حماسي لها وارتباطي بكلمة مع فاروق عبد القادر حين حصلت على الرسالة منه، لكنه يرى أنها يجب أن تنشر في النصف الأسفل من الصفحة الثانية، وهو المكان الطبيعي الذي يليق برسالة عادية كهذه بين كاتب وناقد، ثم استغل فرصة ذهولي مما سمعته، ليقول إنني يجب أيضاً أن أخفف لهجة الاحتفاء بفاروق عبد القادر التي كتبتها في المقدمة، لكي لا يقول أحد إنني أجامله لأنه صديقي، وهنا وجدت صوتي، فاندفعت مدافعاً عن نفسي قبل أن أدافع عن الرسالة، وقلت إنني أتشرف بصداقة الأستاذ فاروق عبد القادر، لكنه في الأول وفي الآخر لا يحتاج مجاملة من أحد، لأنه ببساطة أهم ناقد عربي معاصر، وهذه ليست شهادتي بل شهادة قرائه والصحف والمجلات التي تتسابق على نشر مقالاته ودراساته، وبغض النظر عن شخص فاروق عبد القادر، فإن مشروع نشر رسائل مثل هذه مهم لأنه يلقي الضوء على تفاصيل العلاقة بين الكاتب والناقد، فما بالك حين يتعلق الأمر بعمل روائي مهم وحديث الصدور مثل (أرض السواد) وبكاتب وناقد كبيرين، وأن نشرها سيشجع فاروق عبد القادر على منحنا المزيد من الرسائل الأهم، وربما شجع العديد من الكتاب والنقاد على منحنا ما لديهم من رسائل سيجد القارئ فيها الكثير من التفاصيل الممتعة والمهمة.
لم أكمل كثيراً في (القاهرة)، تركتها بعد أقل من شهرين من ذلك الموقف بعد تطورات دراماتيكية، لأقرر بعدها ترك العمل في الصحافة والتفرغ للكتابة السينمائية
وهنا قرر الأستاذ صلاح أن ينزل بأقوى كروته وآخرها، ويذكرني بأنه رئيس التحرير المسؤول عن الصحيفة وما ينشر فيها، وقال لي بابتسامة ساخرة: "ومين قالك إننا عايزين رسائل زي دي أصلاً يا سيدي"، مؤكداً أنه لا يريد أن يصدر صحيفة أدبية تتوجه إلى الأدباء والنقاد وقراء الأدب مثل صحيفة (أخبار الأدب) التي يجب أن نكون مختلفين عنها، بل يريد أن يصدر صحيفة ثقافية عامة تهتم بمجالات عديدة وتتوجه للقارئ العادي الذي ربما لا يعرف عبد الرحمن منيف ولا فاروق عبد القادر أصلاً، ومع أنه كان يعرف أن بين الأستاذ جمال الغيطاني رئيس تحرير (أخبار الأدب) وبين الأستاذ فاروق ما صنع الحداد، بسبب مقالات فاروق النارية التي كان يهاجمه فيها، إلا أنه قال وبراءة رؤساء التحرير في عينيه: "رسالة زي دي كانت تنفع تتنشر في أخبار الأدب".
وبالطبع تجاهلت ذلك التعليق البريء، وذكرت الأستاذ صلاح بعدد من الموضوعات التي حفل بها العدد السابق وسيحفل بها العدد التالي، والتي لا ينطبق عليها ما يقوله، ثم ذكرته بأن الموضوع لن يأخذ حيزاً ضخماً من الصفحتين اللتين توجد بهما موضوعات متنوعة وجميلة، فقرر أن يحسم الجدل ووضع يده على كتفي وقال بحسم: "أنا قلت اللي عندي والموضوع خلص"، ثم أردف قائلاً: "يا بيلّ يا جميل"، وهو اسم الدلع الذي تعود أن يناديني به في حالتين، حين يكون راضياً عني كل الرضا، أو حين يكون راغباً في أن يوصل لي رسالة شديدة اللهجة.
كان عليّ أن أختار بين إثارة أزمة عاصفة لا تتوافق مع فكرة أن الرسالة ستنشر في نهاية المطاف، وبين تعدية المسألة والتضحية بما وعدني به الأستاذ فاروق من رسائل، ولأسباب كثيرة تتعلق بطبيعة الصراعات التي كانت قائمة في الصحيفة وقتها، سيكون لنا عنها حديث آخر، قررت ألا أثير أزمة وأن أستجيب لقرار الأستاذ صلاح بنشر الرسالة في مكان أقل أهمية وبشكل أقل احتفاءً، لكنني صممت على مشاغبة ملك المشاغبات الصحفية، وسألته بوضوح: "هو انت في إيه بينك وبين فاروق عبد القادر؟ ليه مش بتطيقه؟"، وكنت أعلم أنني لو صغت السؤال بالشكل التالي: "هو انتو ليه مش بتطيقوا بعض؟"، كان سيمسك في تلك الصيغة ليسألني: "وهو قالك إيه عني يخليك تقول إنه مش بيطيقني؟"، وبالطبع لم يعطني الأستاذ صلاح عقاداً نافعاً بل قال لي ضاحكاً: "وهو أنا لو مش باطيقه هانشر الرسالة دي من أصله؟"، ثم لم يفلت فرصة تسجيل بنط عليّ وقال لي: "وبعدين انت قصدك يعني إن أنا بادخّل آرائي الشخصية في الشغل؟"، وقبل أن أجيب عاد للطبطبة على كتفي وهو يقول بطريقته المميزة: "ماشي يا جميل.. آدي آخرتها يا جميل"، لينتزع مني ضحكة تدرك التكنيك الذكي الذي أوقعني به في الغلط، وقلت له ضاحكاً: "العفو يا رئيس، قطع لسان اللي يقول عليك كده"، فيضحك ضحكته المنتشية المميزة، ويقول لي: "طيب خلاص عفا الله عما سلف، شوف شغلك يا جميل".
لم يكن من الممكن أن أنتظر نزول عدد (القاهرة) إلى الأسواق ليرى الأستاذ فاروق الموضع الذي نشرت فيه الرسالة، ويدرك أنني لم أستطع الوفاء بوعدي، فقررت توجيه ضربة استباقية لغضبه، واتصلت به في نفس اليوم، وبمجرد أن سمع صوتي وأنا أرمي عليه السلام، التقط الحكاية بذكائه المعهود وأطلق ضحكة عالية وقال لي: "مش قلت لك"، وقبل أن أنطلق في سيل من الاعتذارات والتوضيحات، قال لي بحسم إنه ليس غاضباً مني، وأنه لم يتوقع ما سيحدث من فراغ، وأن مكانتي لديه أعلى من أن تتأثر بسبب موقف كهذا لا حيلة لي فيه، وأن أكثر ما يغضبه في موقف كهذا أنه يمكن أن يؤكد ما يقوله بعض المثقفين العرب عن تجاهل مصر للتجارب الثقافية العربية بقصر نظر لا يليق ببلد كان في السابق يحتضن المواهب العربية ويحتفي بها، طالباً مني ألا نتحدث في الموضوع حين نلتقي في ندوته القادمة، وبالطبع لم يكن من الممكن أن أفوت فرصة سؤاله عن سر الموقف الذي يتخذه منه صلاح عيسى، لتنطلق ضحكته العريضة مجدداً، ويقول لي: "لما نشوف الأول هتكمل في الجرنان ولا لأ؟".
لم أكمل كثيراً في (القاهرة)، تركتها بعد أقل من شهرين من ذلك الموقف بعد تطورات دراماتيكية، لأقرر بعدها ترك العمل في الصحافة والتفرغ للكتابة السينمائية، ومع أنني التقيت بالأستاذ فاروق بعدها كثيراً قبل أن أنقطع عن حضور ندوته الأسبوعية، إلا أنه لم يجبني على سؤالي، ولم يستجب لطلبي المتكرر بقراءة كنز الرسائل التي ظل يحتفظ بها، والتي ضاعت مع الأسف بجملة الذي ضاع.