رمضانات أحمد فؤاد نجم (4)
بعد النجاح الكبير الذي حققه ملحق (وحوي يا وحوي) الذي أشرفت عليه في صحيفة (الجيل) التي كانت حديثة الصدور في ذلك "الرمضان المبارك" الذي وافق نهاية عام 1998، قرر رئيس التحرير ياسر أيوب إصدار ملحق خاص يصدر في آخر أيام شهر رمضان بعنوان (العيد فرحة)، فطلبت من الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم أن يرسل لنا مقالاً ننشره في الصفحة الأخيرة في الملحق، فأرسل إلي هذا المقال الذي ختم به سلسلة مقالاته وحكاياته الرمضانية:
انتدبوني تلميذاً.. تصدّق؟
نعم يا أخي، حصلت لي الحكاية دي في قديم الزمن، ولا تتعجب يا أخي إنها إرادة الله. كنا بنلعب ماتش كرة على علبة ملبن بريحة ـ كان فيه زمان ملبن بريحة ـ وكان فيه في نفس الوقت ماتش تاني يتلعب على مصطبة دكان أبو عبد الله وكان نجم ماتش المصطبة الأول وربما الأخير هو حسين أفندي شلبي ناظر المدرسة الإلزامية اللي قاعد يقرا من ورقة والقاعدين يقولوا: الله.
سيادته كان بيقرا قصيدة مناسبات تفتقت عنها قريحته الجهنمية ليستقبل بها فضيلة الشيخ حسن العزب كبير مفتشي وزارة المعارف العمومية في الزيارة المفاجئة للمدرسة يوم السبت الجاي بعد الجاي:
أهلا وسهلا ومرحبا
بالزائر السامي الأغرّ
في عهدكم تسمو المدارس
فوق هامات الزَهَر
ويثقِّف التعليم نشئاً
قد تحلى بالفضائل وازدهر
فاسلم ودم يا سيدي
فخراّ وذخراً للرقي المنتظر
أنا لازم كل يوم الصبح أصحى من النجمة أفطر وآخد غدايا في منديل وأشد الرحال على غيطان الخاصة الملكية، ألقّط رزقي من هناك وأرجع المغرب ومعايا أجرة يومي عشرة صاغ بالتمام والكمال
طبعا الكلام المجعلص اللي في القصيدة يهيأ لك إنها مكتوبة لاستقبال قيصر الروم أو عظيم الفرس كسرى أنوشروان أو حاجة من هذا القبيل، لكن لو عرفت الحقيقة حتندهش من وساخة حسين أفندي شلبي ودماغه اللي كلها سم. أتاري المدارس الإلزامية دي كانت عبارة عن تكايا وعِزَب ملاكي للسادة النُظّار وكان مقتل الناظر من دول إنك تنقله من بلد لبلد بعدما يكون اترستق واشترى أرض وشارك على بهايم ودواجن وبقت مصارينه في السوق، وكان المعروف عن فضيلة كبير المفتشين إن كرشه أوسع من رحمة ربنا وإنه على رأي العمدة: راجل ياكل مال النبي ويغمّس بالصحابة! وفتّح عينك يا حسين أفندي يا شلبي تاكل ملبن، ماذا وإلا النقل الفوري لمدرسة تانية في بلد تانية وده معناه خراب البيوت المستعجل.
لكن نتانة حسين أفندي شلبي وجشعه كانوا أقوى من كل هذه التصورات المأساوية فقال في عقل باله: ديك أم الشيخ حسن على ديك أم وزارة المعارف العمومية أنا مش حأبّز بمليم أحمر. وهداه تفكيره الشيطاني إنه ياكل الراجل بكلمتين، فعصر تلافيف دماغه المسمّمة وكتب البُقّين الزفرين دول عشان يكروِته بيهم، وأمك في العش ولا طارت؟ وتوتة توتة فرغت الحدوتة، أتاري سبحانه وتعالى كان له ترتيب تاني واسمع يا ابن آدم وشوف، وحديد حديد يفعل الله ما يريد.
أثناء ما كان حسين أفندي شلبي بيقرا القصيدة بصوت عالي وبأداء تمثيلي كنا كسبانين خمسة تلاتة والفورة من ستة، طقت في دماغي إني آخد الكورة من الجون للجون، وأجيب الجون السادس، وتكسب صندوق الملبن أبو ريحة، وفعلا خدت الكورة من إيد الجون وكل اللي يقابلني أرقّصه وأنا باقول بصوت عالي: أهلا وسهلا ومرحبا، يخش التاني أرقّصه وأقول: بالزائر السامي الأغر.
سمعني حسين أفندي شلبي، ندهني: خد يا، قلت له: نعم حضرة الناظر، قال لي: انت كنت بتقول إيه دلوقتي؟ قلت له: كنت باقول أهلا وسهلا ومرحبا، دي حلوة قوي يا حضرة الناظر. وسكت حسين أفندي وقال لي: اسمع يا واد، تقدر تحفظ القصيدة دي وتقولها في استقبال المفتش؟ قلت له: بس أنا مش تلميذ عندك، قال لي: مش مهم، وحفّظني القصيدة وبدأنا نعمل البروفات وأنا دماغي مش معايا.
طب ح أقول إيه لأمي؟ أنا لازم كل يوم الصبح أصحى من النجمة أفطر وآخد غدايا في منديل وأشد الرحال على غيطان الخاصة الملكية، ألقّط رزقي من هناك وأرجع المغرب ومعايا أجرة يومي عشرة صاغ بالتمام والكمال وما ينفعش أريّح يوم، فلجأت لما يعرف لدى العامة بالكذب الأبيض، قلت لها: زغرطي يا امّه، راحت فاقعة زغروطة من أم ديل وقالت لي: خير؟ قلت لها: أنا ح استوظف فراش في المدرسة بخمسة جنيه، راحت فاقعة كمان زغروطة بديل، قلت لها: بس يا خسارة لازم أروح أمتحن يوم السبت. قالت لي: ما تروح ما انت اسم الله عليك لبلب الله أكبر الله أكبر، قلت لها: طب والشغل، قالت لي: خد أجازة، قلت لها: بس يا امه، قالت لي: ما بسّش، وقامت غسلت لي الجلابية الزفير الاحتياطي، بحيث تبات تحت المرتبة يوم الجمعة بالليل تطلع صباح السبت مكوية وعلى سنجة عشرة.
وجاء الصباح المنتظر، المدرسة مكنوسة ونضيفة وحسين أفندي جايب ورق جرايد ومقصقصه عرايس وجمال وحمام وعصافير، وداهن الورق بالحبر إشي أزرق وإشي أحمر، وبصراحة عامل منظر وراشش أرضية المدرسة الرملية برمل أبيض نضيف وتقريبا عملنا بروفتين على المشهد اللي هو عبارة عن دخول الشيخ حسن، فحسين أفندي يقول: قيام، تعظيم سلام، جلوس، حيّي البيه يا واد، أروح واقف أهلا وسهلا، ومرحبا إلى آخر القصيدة اللي هو عدم المؤاخذة، الرقي المنتظر.
وفجأة حصل الهرج والمرج إيذانا بوقوع ساعة الصفر، وانفتح الباب عن شيء أشبه بالكورة الأرضية ولحمة أحمر وبيلمّع ولابس جبة وكاكولة من الصنف اللمّيع، وصرخ حسين أفندي شلبي: قيام، تعظيم سلام، جلوس، حيي البيه يا اد، رحت منتور على حيلي ولسه باقول: أهلا وسهلا، قال لي: اقعد ياد، بصيت لحسين أفندي لقيت وشّه ضرب بصفار وشفايفه نشفت، صعب عليّ رحت طالع من التختة وهاجم ع الوحش الرهيب وأنا باصرخ في وشه:
في عهدكم تسمو المدارس
فوق هامات الزهر
قال لي: جزعتني يا ابن الحرام. وراح نازل بكلوة يده على وشّي، خلّا عينه طلّعت شرار، قلت له: يا بن المتعد... إنت بتضربني على خوانة؟ انت فاكرني تلميذ، ده أنا حاطلّع دين أمك، وفي أقل من دقيقة كان الطوب نازل عليهم زي الشتا، ويوم الاثنين كان حسين أفندي شلبي محمِّل عزاله على عربيتين كارو ومغادر البلاد.
....
رحم الله عمنا أحمد فؤاد نجم وكل سنة وانتو طيبين أنتم ومن تحبون.