زلزالٌ سوريٌّ ليس على مقياس ريختر!
حين وقعت الهزة الأرضية في جنوب تركيا، وامتدّ صداها إلى ما تبقى من الأراضي السورية، شعر الناس فجأةً بوخزةٍ في إنسانيّتهم، لأنّ التضامن مع ضحايا كارثة طبيعية لا يمكن أن يحمل وصماً سياسيّاً، فلن يسألك أحد عن سبب تبرعك للمنكوبين، ولن تدخل في نقاش عميق، أو تحقيق مطوّل، حول موقفك من سيدة توفيت تحت الأنقاض في إدلب، أو اللاذقية.
لكنك (عدا الزلزال) كنت لتشعر بانزعاج من كثرة شكوى السوريين التي لا تنتهي عن وطنهم السليب، عن يومياتهم في الخيام، وعن العنصرية ضدهم في بلاد اللجوء الإجباري التي تجتهد أن تتقيّأهم كلّ يوم، وحديثهم عن ذكرياتهم التي دفنت منذ زمن بعيد، لم تكن لتتفاعل لأنك ضجرت، وضاق صدرك بما فاضت به صدورهم عن آخرها وابتلعوا بداخلهم أضعافها؛ فجاء الزلزال فرصةً ذهبية للتحايل على الغفلة الطويلة، والنسيان المرّ، كمسكّن للإنسان المسجَّى في داخلك.
لم يكن الزلزال الذي أوقع نحو خمسة آلاف قتيل في سورية هو الأول، وإنما كانت قبله آلاف الهزات التي لم تلتفت إليها، لم يكن ضروريّاً أن تتابعها كما تتابع الموجات الارتدادية، لكن كان من الضروريّ أن تشعر بتلك الوخزة نفسها، ولو في مرّة من المرات الكثيرة التي اهتزت فيها الأرض بزلازل مركزها السماء، وكانت الهزات فيها تهبط من الأعلى إلى الأسفل، وليس العكس.
منذ الزلزال الأول، لم يغادر السوريون مكانهم "المؤقت" ذلك الحين، لم يبرحوا هذه المخيمات التي طُوّرت في ما بعد إلى حجارة وصاج وخشب وتهدّمت فوق رؤوس ساكنيها أكثر من مرّة، ولم يتركوا البنايات المؤقتة التي بلا طعم ولا لون ولا رائحة، والخيام الغارقة في الثلوج والمياه والوحل والبرد حتى أعناقها، تخيّل! منذ أمد بعيد، حتى هذا اليوم القريب الذي لفت فيه الزلزال الأخير نظرك، كانوا هم هم، في المعاناة نفسها، في المأساة التي لم تتغيّر، وإنما ازدادت سواداً يوماً بعد آخر.
لا تقاس كلّ الزلازل بمقياس ريختر، ولا تسجل كلّ الهزات على المراصد، ولا تقدِّر كلَّ الخسائر هيئاتُ الكوارث والطوارئ؛ بعض الزلازل يلزمها اختراع يقيس الإنسانية، ويبني الخسائر على أساس الضمائر بجوار الأرواح، فالبعض يموت تحت الأنقاض بعد القصف، والكثيرون يموت شيء في داخلهم عند اعتياد الخبر.
كل ما هو مطلوب من الجميع بلا استثناء ألا "نعتاد" المأساة، ألا نراها تخفت شيئاً فشيئاً
ولا أنكر هنا على المتضامنين فعلهم، لكن كلّ ما في الأمر أنّ السوريين بالفعل لم يكونوا ينتظرون الزلزال حتى تشعر بهم، وليست تلك المأساة هي التي تقول فيها "ياه! ما أصعب ما يعيشونه!"، لأنّ ما عاشوه حقًّا كان مستحيلاً، ووزنه أثقل بكثير، وليس مشهد الخيام بجديدٍ عليهم، ولا مفارقة الأراضي بتجربة أولى، هم قاسوا ما قاسوا، بينما كنتَ تتضامن غالباً مع شعوبٍ أخرى لا يربطك بها إلا حبّك للغتهم، أو بشرتهم، أو شعورهم، من باب تنويع التضامن وتوزيعه حتى لا تمل، أما التغريبة السورية، والحكاية الطويلة الممتدة منذ نحو اثني عشر عاماً فالكل يعلم كم هي مملة لكثيرين.
الشاهد هنا باختصار يا سيدي أنّ الأمر يستحق الوقوف عنده؛ لا أحد يطلب مني ولا منك أن نذهب لنوقف الصواريخ، ولا لنمنع براميل الـ"تي إن تي"، ولا أن نعمل مراسلين من قلب الحدث ساعة بساعة، لكن على الأقل كل ما هو مطلوب من الجميع بلا استثناء ألا "نعتاد" المأساة، ألا نراها تخفت شيئاً فشيئاً، وألا نظنّ أنّ القصة قد حدثت وهم يكرّرون روايتها، فالثلج الذي يحاصر خيامهم ليس متراكماً من الشتاء الماضي وشعروا به مرّة وانتهى، وإنما هو يحدث كلّ مرة، وكلّ ليلة فيها برد غير التي قبلها وبعدها، والقصف الذي يحصد الأبرياء تحت الأنقاض ليس بظاهرة نادرة، وإنما هو متجدّد، لا يفنى، والموت متربص لا يشبع، يأكل من البحر بعضهم، ومن البر بعضهم، ومن المتطايرين في الأجواء بقيتهم، فلا ينسيك الزلزال الطبيعيّ، زلازل صناعية مدمرة تحاصرهم كلّ مساء، وكوارث بشرية ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم.
وإنّ كان الزلزال "مساحة آمنة" لممارسة فضيلة التعاطف، والوقوف على الحياد، ووضع العلم السوري الأحمر والأسود، فماذا تحتاج إلى أكثر من زلزال حتى تفهم أنك ما زلت ترتكب جريمة عدم التحيز؟ فالذي يترحم على القتيل ولا يلعن قاتله مشارك في جناية التستر على مجرم!
وأخيراً، ومن جديد، الزلزال (على شدته) أمر طبيعي؛ أما غير الطبيعي فكارثتك الإنسانية.