سني وشيعي أم ظالم وعادل؟

19 أكتوبر 2024
+ الخط -

لم يخطر ببالي، وأجزم بأنّه في بال الكثيرين أيضًا، أنّ معركة طوفان الأقصى ستكلّف الشعب الفلسطيني واللبناني، خسائر فادحة، وما زالت، في الأرواح والممتلكات، وأيضاً ستكلفنا قادة عظاماً، من أمثال يحيى السنوار، وإسماعيل هنيّة وحسن نصر الله.

خسائر أدّت إلى نكباتٍ نفسيةٍ عميقة، في قلب وعقل كلّ من يعتبر نفسه معنياً بهذه المعركة، إذ كيف يمكن لهذه الآلة الحربية الإجرامية الإسرائيلية أن تفتك بالبشر والحجر، وتقتل القادة، ولم يحرّك أحد ساكناً في العالم، فضلاً عن الصمت العربي المتآمر، والدعم الغربي المفتوح والوقح، الذي ينظر إلى الفلسطينيين واللبنانيين كـ"أغيار" وفق المفهوم الصهيوني، "أغيار" نستحق القتل والسحق والإبادة الجماعية، لمجرّد أن انتفضنا على جلادنا.

ما سبق، قيل فيه الكثير، وكُتِب فيه الكثير، وما زال يستحق الكتابة والحديث حتى آخر نفس، نظراً لاستمرار الإبادة الجماعية، ومجدّداً في ظلّ صمتٍ عربي متآمر، ودعم غربي مفتوح ووقح، وهو أمر مؤلم بلا شك، لكن ما هو مثير للاستغراب والألم في الوقت نفسه، أن نصنّف من يقف بجانب مظلمة الشعب الفلسطيني، بهويته المذهبية، لكي نحكم على نياته، وهل ما يقوم به بدافع فطري صادق مبنيّ على مفهوم العدل والحرية ومقاومة الظلم والطغيان من احتلالٍ إسرائيلي إحلالي استيطاني جاثم على أرضَي فلسطين ولبنان، أم أنّ هناك مصالح ونيات "شريرة" تحدق بالأمّة "السُّنية" جرّاء تغوّل قوى ودول شيعية، تدعم معركة الشعب الفلسطيني مع الاحتلال! 

نحن في التفكير الغربي والصهيوني مجرّد "أغيار" نستحق القتل والسحق والإبادة الجماعية، لمجرّد أن انتفضنا على جلادنا

هل يمكن، فيما الدم الفلسطيني واللبناني القاني يُراق، أن ننزل إلى مستوى نقاش سُني شيعي، ونبحث في النيات التي لا يعلمها إلا الله، والشعب الفلسطيني يُذبح في غزّة، والقرى الشيعية الحدودية بأغلبها تتعرّض لحربِ إبادةٍ وتهجير وتدمير ممنهج؟ أم أن نجري نقاشاً مبتذلاً وأبناء حزب الله وحركة أمل الشيعيين، يرتقون شهداء، ويختلط دمهم بالدم السُّني من أبناء سرايا القدس وكتائب القسّام، الحركتان السُّنيتان الفلسطينيتان في جنوب لبنان؟ وهل من فرقٍ بين طلقة رصاص سُنية وأخرى شيعية تجاه جندي إسرائيلي، غازٍ ومحتل؟ وهل يفرق كثيراً صاروخ فلسطيني عن صاروخ إيراني أو يمني، إلا بما يحدثه من دمار، وهل فرّقت الصواريخ والقنابل الإسرائيلية، بين جسد نصر الله "الشيعي"، و"السنوار" السُّني. 

لماذا ما زلنا في هذا الفقاعة من الغمز واللمز من مرضى التعصّب الديني والمذهبي، من رجال دين، وشخصيات مثقفة بريئة أو مغرضة، أغرقها الجهل أو المصلحة، أو الأحقاد الدفينة التي لا علاج لها، في هذا التوقيت، ومَن المستفيد من هذا الهراء؟

 ربما نقدِّر من آثر الصمت منهم وعدم إثارة الفتنة، ونعذر آخرين ينتقدون التحالف مع المحور "الشيعي" سراً، لكن هل يمكن احترام من اختار التشكيك، وحتى الشماتة والتأييد لما يقوم به الاحتلال في الجنوب ومع حزب الله؟

هل من فرقٍ بين طلقة رصاص سنية وأخرى شيعية تجاه جندي إسرائيلي، غازٍ ومحتل؟ 

هؤلاء عندما تتوجّه لهم بالسؤال أين هو البحر "السُّني"، ممّا يجري من أنظمةٍ وشعوب؟ أين العلماء الذين صدحوا بالجهاد في أصقاع كثيرة في خدمة سياساتٍ عربية وغربية، وعندما تعلّق الأمر بفلسطين نجد صمتاً مطبقاً، بل ومواقف خجولة، وخشية، وحسابات كثيرة؟ بل ويكون الجواب "أنظمة متآمرة"، لكن المحور "الشيعي" مصلحي، ولماذا لا يكون المحور "السُّني" مصلحياً أكثر منهم؟ وهل سيفكّر المقاوم الفلسطيني وهو يطلق الرصاص تجاه احتلال مدجّج بأعتى الأسلحة الغربية، بمن زوّده بالرصاصة، سني أم شيعي؟

إذا لم يكن قول الحق في هذه المعركة ممكنًا، فآثروا الصمت. يقول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم "من آمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت". وإذا لم تستطع لأيّ سببٍ كان أن تؤيّد محور المقاومة الداعم للفلسطينيين، فالصمت عن الفتنة المذهبية أوجب، ونبينا الكريم يقول: "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها".

إنّ عدونا الذي يتربّص بنا جميعاً، يبحث بأيّ وسيلةٍ كانت عن إحداثِ فتنةٍ في أمتنا، فتنة سُنية شيعية، وبين الدول السُّنية التي يصنفها "معتدلة" وإيران "محور الشر"، وبين أنظمةٍ عربية والإخوان المسلمين، يحاول بشتى الطرق أن يستجلب عوناً وتأييداً، وتبريراً لجرائمه، ولا يُخفى على أحد أنّ مصالح بعض الدول العربية مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمحور الغربي الإسرائيلي، لكن هذا لا يعفينا من مسؤولية التعقّل وعدم الانجرار بالعواطف، وإيثار مصلحة المنطقة، وتفويت الفرصة على الاحتلال، ذلك أنّ انتصار نتنياهو في هذا المعركة، لن يتوقف عند حدود غزّة، فالشرق الأوسط مهدّد بأكمله ضمن مخطّطٍ أميركي بأداةٍ إسرائيلية.

إذا لم تستطع لأيّ سببٍ كان أن تؤيّد محور المقاومة الداعم للفلسطينيين، فالصمت عن الفتنة المذهبية أوجب

لم يكن مستغرباً أنّ الاحتلال في الآونة الأخيرة عمل على إحداثِ فتنةٍ في لبنان، عبر استهداف المناطق "الشيعية" تحت ذريعة احتضان حزب الله، وتخزين الأسلحة، ثم استهدف بعض الشقق السكنية من أبناء الطائفة المهجرين في البلدات اللبنانية ليثير الرعب والخوف، وليدفع بأبناء تلك المناطق، وهو ما حصل في بعض الحالات، بالطلب من تلك العائلات مغادرة تلك المناطق منعاً للاستهداف، وهو ما تماهت معه أحزاب وقوى لبنانية مناوئة لحزب الله لأسبابٍ ليست بريئة .

لقد قدّمت المقاومة الفلسطينية في الضفة، نموذجاً فريداً في الوحدة الوطنية، وفوّتت الفرصة على الاحتلال لإحداث فتنة وحرب أهلية من خلال تحمّل كلّ ممارسات أجهزة أمن السلطة الفلسطينية. لقد تحمّل المقاومون سياط التعذيب ممّن يفترض أنهم من أبناء الأرض الواحدة، والمطاردة، والتنسيق الأمني، وتفجير وكشف الكمائن المعدّة للاحتلال، كلّ ذلك حتى لا يقعوا بفخّ الفتنة والاقتتال، بالرغم من أنّ لدى المقاومين كلّ الحق في مواجهةِ السلطة، التي لم تكترث يوماً للحفاظ على نسيج الوحدة الوطنية.

انتصار نتنياهو في هذا المعركة، لن يتوقف عند حدود غزّة، فالشرق الأوسط مهدّد بأكمله ضمن مخطّطٍ أميركي بأداةٍ إسرائيلية

 في مثل هذه المواقف، نستحضر نموذجاً تاريخياً قدّمته رواية الأديب إبراهيم نصر الله، في رائعته "قناديل ملك الجليل"، في موقف سجله بطل الرواية، ظاهر العمر الزيداني، مع الأمير ناصيف النصار "أمير المتاولة" الشيعي. لقد اجتمع الاثنان على منع تدخل ولاة الدولة العثمانية بشؤونهم الداخلية، والإثقال عليهم بالضرائب، وإقامة العدل. ولقد مضى ظاهر العمر يستقطب المناطق التي تستنجد به لعدله، حتى وصل الأمر إلى أن يطلب من نصّار قريتي البصة ويارون. وبعد أحداثٍ عديدة تنازل الأمير ناصيف، وتحالفا على العدل، والأمير ظاهر بحسب الرواية سُني، والأمير ناصيف شيعي.

تثور ثائرة سعد، شقيق ظاهر العمر، الذي قال له: "تبسط نفوذك على أرض المتاولة أفهم هذا، ولقد سعيت بنفسي كي أساعدك، ولكن أن تحولهم إلى حلفاء، أتعلم ما الذي يعنيه ذلك، أنك تعادي أهل السُّنة كلهم في هذه البلاد وخارجها وتطعنهم في إيمانهم"، ليرد عليه ظاهر العمر بكلماتٍ من ذهب: "أنا لا يعنيني ما تؤمن به، يعنيني ما الذي يمكن أن تفعله بهذا الإيمان، تبني أم تهدم، تظلم أو تعدل، تخلص أم تخون... يا سعد، هؤلاء الذين يحيكون لك المكائد هم من مذهبك ومذهبي (ولاة الدولة العثمانية)، وتقول إن عليّ أن لا أحالف بلاد بشارة والأمير ناصيف... والله لو وقف ببابي رجلان، رجل عادل من أي ملة أو دين، ومسلم ظالم، لأسكنت الأول قلبي وطردت الثاني".