محفوفة بالمخاطر... إنقاذ الكتب من الضاحية الجنوبية
أحمد الصباهي
منذ أن خرجت من الضاحية الجنوبية لبيروت إلى سكني الجديد المؤقت، جرّاء القصف الإسرائيلي الإجرامي، شغلت أحاديثنا مع العائلة الأشياء التي تركناها خلفنا، فكلّ فرد منا أخذ حاجيات مؤقتة تتناسب وفصل الصيف، وتركنا خلفنا ملابسنا الشتوية، وأنا تركت خلفي مكتبتي.
تردّدت أكثر من مرّة إلى المنزل وذلك قبل اشتداد القصف الإسرائيلي، ولكن بعد اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، امتنعت عن الذهاب، ذلك أنّ القصف أخذ منحى أشد، وفي المرّتين السابقتين اقتصرت زياراتي على ما هو ضروري من حاجيات المنزل.
لم أغادر منزلي خالي الوفاض من الكتب، إذ كنت قد كثفت قراءاتي في الآونة الأخيرة عن الصهيونية، فاخترت كتب الدكتور عبد الوهاب المسيري، خصوصاً كتابه "الأيديولوجية الصهيونية" (من جزئين) وغيره من كتبه التي كانت رفيقة الدرب في الانتقال الأوّل، كذلك كتب المؤلفين الإسرائيليين الذين انتقدوا المشروع الصهيوني، أمثال شلومو ساند، إيلان بابيه، بيني موريس.
كذلك لم تخل جعبتي من الكتب الأدبية، فاخترت الملهاة الفلسطينية للأديب والشاعر الفلسطيني المعروف إبراهيم نصر الله. ثمّ انقطعت فترة خمسة عشر يوماً عن المنزل، وتفكيري مشغول دائماً (وما زال) بمكتبتي، لذا وضعت لائحة من الكتب لأعود بها إلى سكني الجديد، لائحة تضم عددًا من المؤلفين الذين اقتنيت معظم مؤلفاتهم، واخترت لكلّ مؤلف كتابا أو كتابين ممّا لم أقرأهم بعد، من التالية أسماؤهم؛ الدكتور عزمي بشارة في كتابه "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" (ثلاثة أجزاء)؛ الدكتور جورج قرم (كتابان: الفكر السياسي في العالم العربي وانفجار المشرق العربي)، الدكتور محمد عابد الجابري (رباعيته: تكوين العقل العربي، بنية العقل العربي، العقل السياسي العربي، العقل الأخلاقي العربي)، الدكتور كمال الطويل (ثلاثية عبد الناصر والبعث).
واخترت من الأدباء التالية أسماؤهم، إلياس خوري (اسمي آدم، نجمة البحر، سيناكول)، جبرا إبراهيم جبرا (البحث عن وليد مسعود، البئر الأولى، صيادون في شارع ضيق)، إيزابيل الليندي (بيت الأرواح، ابنة الحظ)، أمين معلوف (حدائق النور، إخوتنا الغرباء، الهويات القاتلة).
كذلك أحببت أن أعود بمجموعة من الكتب عن الصهيونية واليهودية من مكتبتي ليست محدّدة العناوين، لكني أذكر أنّ لديّ مجموعة جيدة منها، كذلك في اللائحة كتب للسيرة النبوية من أسماء المؤلفين، الشيخ محمد متولي الشعراوي، الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.
الذهاب إلى المنزل في الضاحية
عندما أصبح لزاماً علينا التحضير لفصل الشتاء، وجدت، والعائلة، أنّه لا بدّ من العودة إلى المنزل، لإحضار الملابس الشتوية، والأغطية، وكذلك كتبي التي اشتقت إليها، والتي أخاف ضياعها، كذلك لا بدّ من إحضار كتب أبنائي، خصوصاً أنّ وزارة التربية والتعليم في لبنان، أعلنت عن افتتاح العام الدراسي في نوفمبر/تشرين الثاني عن بعد، مع أنّ كل ظروف لبنان تعاكس هذا التوجّه.
كان لا بدّ من شيءٍ من التخطيط لهذه "الرحلة" المحفوفة بالمخاطر؛ أيّ الطرق سأسلك، خصوصاً أنّ النقل غير متوفر كالسابق إلى الضاحية، كذلك ما هي الحاجات الضرورية التي سأنقلها معي، وما هو الوقت الذي سأقضيه في المنزل لجمع هذه الأشياء، وكيف يجب أن أتفقد هاتفي للاطلاع على تحديثات ما يسمّى "الإنذارات" التي يطلقها جيش الاحتلال لاستهداف مناطق في الضاحية عبر حساب المدعو أفيخاي أدرعي مع العلم أنّ الاحتلال لا يلتزم دائماً باستهداف المناطق التي أعلن عنها سابقاً.
كانت رائحة البارود خانقة بسبب القذائف الهائلة التي ألقاها الاحتلال على الضاحية الجنوبية لبيروت
ربّما ما عايشته حتى الآن من النزوح، وترك الحاجيات والانتقال مع الأسرة إلى أماكن سكن أخرى، يمثل جزءاً متواضعاً ممّا عايشه الغزيون، من نزوح وتهجير، فشعرنا نوعاً ما بألم النازحين الذين غادروا أماكن سكناهم، وحنينهم إلى منازلهم الأولى والاطمئنان عليها، خصوصاً أنّ إحدى ضربات الاحتلال لم تبعد عن منزلي سوى 50 إلى 70 متراً، ومع اطمئناني أنّ المنزل ما زال بخير، إلا أنّي توقعت أنّ يكون قد أصابه ضرر، أو كسر زجاج النوافذ.
وصلت إلى المنزل، برفقة سائق أجرة قَبًل المخاطرة مقابل مبلغ مالي على مسؤوليته، كان الحي مقفراً، إلا من رجل واحد، وكانت رائحة البارود خانقة جرّاء القذائف الهائلة التي ألقاها الاحتلال على الضاحية، وبالرغم من وضع ثلاث كمامات على وجهي، إلا أنّ رائحة البارود كانت نفاذة وتخنق، وفور وصولي إلى البوابة الخارجية شاهدت على الأرض مشهداً غريباً؛ كانت الصراصير ميتة ومقلوبة على ظهرها، وفي المنزل كانت الرائحة أشد، لتضيف إلى خطر البقاء، خطر التعرّض لضررٍ كبير جرّاء استنشاق رائحة البارود.
ما أتيت به وما تركته من الكتب
كان لا بدّ من الاستعجال، خصوصاً أنّ المنطقة التي أسكنها في الضاحية، تعرّضت لضرباتٍ كثيرة، وهي في كلِّ الإنذارات التي أطلقها الاحتلال سابقاً كانت على جدول الأعمال. كنت قد جلبت معي حقيبة متوسطة لوضع الكتب فيها، وكنت أتوقع أن تسع كتبي وكتب أبنائي، إلا أنّ هذا الأمر لم يحصل، ولم أكن مرتاحاً لأجمع لائحة الكتب، خصوصاً أنّي شعرت أنّ لائحة الحاجيات فرضت نفسها على الوقت، وكانت أوّل عملي فور وصولي إلى المنزل، كما أخذت جلّ الوقت الذي خطّطت للبقاء به في المنزل في ظلّ انقطاع الكهرباء، ثمّ دخلت مكتبتي آخر الوقت، والكهرباء مقطوعة وأعتمد على ما يمدّني به انعكاس ضوء النهار، وبدأت بجمع الكتب من أماكنها التي أذكرها حسب اللائحة، ووضعتها بين الحاجيات.
بعد هذه الواقعة، شعرت بأهمية أن يكون لديك رفيق من أهلك يجمع أغراضك معك في المنزل، إلا أنّ خوفي من حدوث قصف منعني من قبول أيّ مساعدة من أصدقاء أو أقارب، حتى لا أتحمّل مسؤولية ضرر لأحد.
العجلة والسرعة، وشدّة رائحة البارود، وضيق الوقت فوّت علي الإتيان ببعض كتب اللائحة، ومنها، كتاب الدكتور عزمي (عن العلمانية)، كتب السيرة النبوية، ثلاثية الدكتور كمال خلف الطويل، وبالتالي ستكون تلك الكتب على رأس لائحتي القادمة. الأجواء التي نعيشها في لبنان لا تسمح كثيراً بمتعة القراءة بشكل مطوّل، ولا أدّعي أنّي قرأت كثيراً خلال الفترة السابقة، لكن مجرّد أن ترى الكتب يومياً يمدّك بالحافز للقراءة ولو بالقليل، فكما يقولون في المثل الشائع "الكحل أفضل من العمى".
لا أعلم متى أعود مرّة أخرى، فهذا في علم الله، ومتى سأكتب فصلاً جديداً من إنقاذ كتبي المحاصرة في الضاحية الجنوبية لبيروت.